فهل أستطيع أنا وأتباعى أن نجبركم إجبارا ، ونقسركم قسرا على الإيمان بي ، وعلى التصديق بنبوتي ، والحال أنكم كارهون لها نافرون منها.
كلا إننا لا نستطيع ذلك لأن الإيمان الصادق يكون عن اقتناع واختيار لا عن إكراه وإجبار.
قال صاحب الظلال ما ملخصه : واللفظ في القرآن قد يرسم بجرسه صورة كاملة للتناسق الفنى بين الألفاظ ، ومن أمثله ذلك قوله ـ تعالى ـ في قصة نوح مع قومه (أَنُلْزِمُكُمُوها ...) فأنت تحس أن كلمة أنلزمكموها تصور جو الإكراه ، بإدماج كل هذه الضمائر في النطق ، وشد بعضها الى بعض كما يدمج الكارهون مع ما يكرهون ، ويشدون إليه وهم نافرون ، وهكذا يبدو لون من التناسق في التعبير أعلى من البلاغة الظاهرية ، وأرفع من الفصاحة اللفظية (١).
ثم وجه نوح ـ عليهالسلام ـ نداء ثانيا إلى قومه زيادة في التلطف معهم ، وطمعا في إثارة وجدانهم نحو الحق فقال : (وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً).
أى : لا أطلب منكم شيئا من المال في مقابل تبليغ ما أمرنى ربي بتبليغه إليكم : لأن طلبى هذا قد يجعلكم تتوهمون أنى محب للمال ..
(إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) ـ تعالى وحده ، فهو الذي يثيبني على دعوتي إلى عبادتكم له ، وفي هذه الجملة إشارة إلى أنه لا يسأل الله ـ تعالى ـ مالا ، وإنما يسأله ثوابا ، إذ ثواب الله يسمى أجرا ، لأنه جزاء على العمل الصالح.
وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ في سورة الشعراء : (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) وجملة (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) معطوفة على جملة (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً) لأن مضمونها كالنتيجة لمضمون المعطوف عليها ، إذ أن زهده في مالهم يقتضى تمسكه بأتباعه المؤمنين.
الطرد : الأمر بالبعد عن مكان الحضور تحقيرا أو زجرا.
أى : وما أنا بطارد الذين آمنوا بدعوتي ، سواء أكانوا من الفقراء أم من الأغنياء ، لأن من استغنى عن مال الناس وعطائهم لا يقيسهم بمقياس الغنى والجاه والقوة ... وإنما يقيسهم بمقياس الإيمان والتقوى.
قال الآلوسى : والمروي عن ابن جريح أنهم قالوا له : يا نوح إن أحببت أن نتبعك فاطرد هؤلاء الأراذل ـ وإلا فلن نرضى أن نكون نحن وهم في الأمر سواء.
__________________
(١) تفسير في ظلال القرآن ج ١٢ ص ٥٤٢.