قال الإمام الرازي : «قوله ـ تعالى ـ (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى ...) إشارة إلى المثل المتقدم ذكره ـ في قوله ـ تعالى ـ (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) ... وهو أن العالم بالشيء كالبصير ، والجاهل به كالأعمى ، وليس أحدهما كالآخر ، لأن الأعمى إذا أخذ يمشى من غير قائد ، فربما يقع في المهالك ... أما البصير فإنه يكون آمنا من الهلاك والإهلاك» (١).
والمراد بالأعمى هنا : الكافر الذي انطمست بصيرته ، فأصبح لا يفرق بين الحق والباطل.
والاستفهام للإنكار والاستبعاد.
المعنى : أفمن يعلم ان ما أنزل إليك ـ أيها الرسول الكريم ـ من وحى هو الحق الذي يهدى للتي هي أقوم ، كمن هو أعمى القلب : مطموس البصيرة؟؟
فالآية الكريمة تنفى بأبلغ أسلوب ، مساواة الذين علموا الحق فاتبعوه ، بمن جهلوه وأعرضوا عنه ، وصموا آذانهم عن سماعه.
وقوله (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) مدح لأصحاب العقول السليمة ، الذين ذكروا بالحق فتذكروه ، وآمنوا به ، وتعليل لإعراض الكافرين عنه ، ببيان أن سبب إعراضهم ، أنهم ليسوا أهلا للتذكر ، لأن التذكر إنما هو من شأن أولى الألباب.
والألباب : جمع لب وهو الخالص من كل شيء.
أى : إنما يتذكر وينتفع بالتذكير ، أصحاب العقول السليمة وهم المؤمنون الصادقون.
ثم مدح ـ سبحانه ـ أصحاب هذه العقول السليمة ، بجملة من الخصال الكريمة فقال : (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ).
وعهد الله : فرائضه وأوامره ونواهيه. والوفاء بها : يتأتى باتباع ما أمر به ـ سبحانه ـ وباجتناب ما نهى عنه.
وينقضون : من النقض ، بمعنى الفسخ والحل لما كان مركبا أو موصولا.
والميثاق : العهد الموثق باليمين ، للتقوية والتأكيد.
أى : إنما يتذكر أولوا الألباب ، الذين من صفاتهم أنهم يوقنون بعهد الله ـ تعالى ـ ، بأن يؤدوا كل ما كلفهم بأدائه ، ويجتنبوا كل ما أمرهم باجتنابه ولا ينقضون شيئا من العهود
__________________
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٩ ص ٣٩.