وقدم ـ سبحانه ـ الإراحة على التسريح ، لأن الجمال عند الإراحة أقوى وأبهج ، حيث تقبل من مسارحها وقد امتلأت بطونها ، وحفلت ضروعها ، وازدانت مشيتها.
وقال ـ سبحانه ـ : (حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ). بالفعل المضارع ، لإفادة التجديد والتكرار ، وفي ذلك ما يزيد السرور بها ، ويحمل على شكر الله ـ تعالى ـ على وافر نعمه.
قال صاحب الكشاف : «منّ الله بالتجمل بها ، كما منّ بالانتفاع بها لأنه من أغراض أصحاب المواشي. بل هو من معاظمها ؛ لأن الرعيان إذا روحوها بالعشي ، وسرحوها بالغداة فزينت إراحتها وتسريحها الأفنية وتجاوب فيها الثغاء والرغاء ، آنست أهلها ، وفرحت أربابها. وأجلتهم في عيون الناظرين إليها ، وأكسبتهم الجاه والحرمة عند الناس.
فإن قلت : لم قدمت الإراحة على التسريح ـ مع تأخر الإراحة في الوجود؟.
قلت : لأن الجمال في الإراحة أظهر ، إذا أقبلت ملأى البطون ، حافلة الضروع ، ثم أوت إلى الحظائر حاضرة لأهلها» (١).
ثم بين ـ سبحانه ـ منفعة ثالثة من منافع الأنعام ، التي سخرها الله ـ تعالى ـ للإنسان فقال : (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ).
والضمير في قوله «وتحمل» يعود إلى الإبل خاصة ، لأنها هي التي يحمل عليها.
والأثقال : جمع ثقل. وهو ما يثقل الإنسان حمله من متاع وغيره.
والمراد بالبلد جنسه ولأن الارتحال قد يكون إلى الشام أو إلى اليمن أو إلى غيرهما.
والشق ـ بالكسر ـ المشقة : ومن كل شيء نصفه ، والباء للملابسة. أى : إلا بمشقة شديدة ، كأن نفوسكم قد ذهب نصفها خلال تلك الرحلة الطويلة الشاقة التي لم تستخدموا فيها الأنعام.
قال القرطبي : وشق الأنفس : مشقتها وغاية جهدها. وقراءة العامة بكسر الشين.
قال المهدوى : وكسر الشين وفتحها في «شق» متقاربان. وهما بمعنى المشقة.
وقرأ أبو جعفر «إلا بشق الأنفس» ـ بفتح الشين ـ وهما لغتان مثل رق ورق.
والشق ـ أيضا ـ بالكسر ـ النصف. وقد يكون المراد من الآية هذا المعنى. أى : لم
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٩٧.