فلا بد من بقية من خير في هذه الأمم ، ولو كان هو خير العمارة للأرض ، وخير العدل في حدوده الضيقة بين أبنائها ، وخير الإصلاح المادي والإحسان المحدود بحدودها.
فعلى هذه البقية من الخير تعيش حتى تستنفدها ، فلا تبقى فيها من الخير بقية ثم تنتهي حتما إلى المصير المعلوم. إن سنة الله لا تتخلف. ولكل أمة أجل معلوم (١).
ثم حكى ـ سبحانه ـ سوء أدب هؤلاء الكافرين مع رسولهم صلىاللهعليهوسلم فقال ـ تعالى ـ (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ. لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) والقائلون هم بعض مشركي قريش. قال مقاتل : نزلت الآيتان في عبد الله بن أمية ، والنضر بن الحارث ، ونوفل بن خويلد ، والوليد بن المغيرة.
والمراد بالذكر : القرآن الكريم. قال ـ تعالى ـ (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (٢).
و «مجنون» : اسم مفعول من الجنون ، وهو فساد العقل.
و «لوما» : حرف تحضيض مركب من لو المفيدة للتمني ، ومن ما الزائدة فأفاد المجموع الحث على الفعل.
والمعنى : وقال الكافرون لرسولهم صلىاللهعليهوسلم على سبيل الاستهزاء والتهكم : «يا أيها» المدعى بأن الوحى ينزل عليك بهذا القرآن الذي تتلوه علينا ، «إنك لمجنون» بسبب هذه الدعوى التي تدعيها. وبسبب طلبك منا اتباعك وتركنا ما وجدنا عليه آباءنا ...
هلا إن كنت صادقا في دعواك ، أن تحضر معك الملائكة ، ليخبرونا بأنك على حق فيما تدعيه ، وبأنك من الصادقين في تبليغك عن الله ـ تعالى ـ ما أمرك بتبليغه؟
وأكدوا الحكم على الجنون بإن واللام ، لقصدهم تحقيق ذلك في نفوس السامعين ممن هم على شاكلتهم في الكفر والضلال ، حتى ينصرفوا عن الاستماع إليه صلىاللهعليهوسلم.
قال الآلوسى : يعنون يا من يدعى مثل هذا الأمر العظيم ، الخارق للعادة إنك بسبب تلك
__________________
(١) تفسير في ظلال القران ج ١٤ ص ٢١٦٦ للأستاذ سيد قطب.
(٢) سورة الأنبياء الآية ٥٠.