الدعوى تحقق جنونك على أتم وجه. وهذا كما يقول الرجل لمن يسمع منه كلاما يستبعده ، أنت مجنون (١).
فأنت ترى أن الآيتين الكريمتين قد حكتا ألوانا من سوء أدبهم ، منها : مخاطبتهم له صلىاللهعليهوسلم بهذا الأسلوب الدال على التهكم والاستخفاف ، حيث قالوا : «يا أيها الذي نزل عليه الذكر» ، مع أنهم لا يقرون بنزول شيء عليه.
ووصفهم له بالجنون ، وهو صلىاللهعليهوسلم أرجح الناس عقلا ، وأفضلهم فكرا ..
وشكهم في صدقه ، حيث طلبوا منه ـ على سبيل التعنت ـ أن يحضر معه الملائكة ليعاضدوه في دعواه كما قال تعالى في آيات أخرى منها قوله ـ تعالى ـ (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا ...) (٢).
وقوله ـ تعالى ـ : (... لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) (٣).
وقد رد الله ـ تعالى ـ عليهم بما يكبتهم ويخرس ألسنتهم فقال : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ ، وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ).
وقرأ الجمهور ما تنزل ـ بفتح التاء والزاى على أن أصله تتنزل ـ ورفع الملائكة على الفاعلية.
وقرأ أبو بكر عن عاصم ما تنزل ـ بضم التاء وفتح الزاى على البناء للمجهول ـ ورفع الملائكة على أنه نائب فاعل.
وقرأ الكسائي وحفص عن عاصم (ما نُنَزِّلُ) ـ بنون في أوله وكسر الزاى ـ ونصب الملائكة على المفعولية والباء في قوله (إِلَّا بِالْحَقِ) للملابسة.
أى : ما ننزل الملائكة إلا تنزيلا ملتبسا بالحق ، أى : بالوجه الذي تقتضيه حكمتنا وجرت به سنتنا ، كأن ننزلهم لإهلاك الظالمين ، أو لتبليغ وحينا إلى رسلنا ، أو لغير ذلك من التكاليف التي نريدها ونقدرها ، والتي ليس منها ما اقترحه المشركون على رسولنا صلىاللهعليهوسلم من قولهم (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) ، ولذا اقتضت حكمتنا ورحمتنا عدم إجابة مقترحاتهم.
__________________
(١) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ١١.
(٢) سورة الفرقان الآية ٢١.
(٣) سورة الفرقان الآية ٧.