ثم ختم ـ سبحانه ـ الآيات الكريمة بالحكم العادل عليهم فقال : (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ).
أى : لا شك ولا محالة في أن هؤلاء الذين اختاروا الكفر على الإيمان سيكونون يوم القيامة من القوم الخاسرين ؛ لأنهم لم يقدموا في دنياهم ما ينفعهم في أخراهم.
وكلمة «لا جرم» قد وردت في القرآن في خمسة مواضع ، متلوة في كل موضع بأن واسمها ، وليس بعدها فعل. وجمهور النحاة على أن هذه الكلمة مركبة من «لا» و «جرم» تركيب خمسة عشر ، ومعناها بعد التركيب معنى الفعل : حق ، أو ثبت ، أو ما يشبه ذلك ، أى : حق وثبت كونهم في الآخرة من الخاسرين.
والذي يتدبر هذه الآيات ، يراها قد توعدت المرتدين عن دينهم بألوان من العقوبات المغلظة ، لقد توعدتهم بغضب الله ـ تعالى ـ وبعذابه العظيم ، وبعدم هدايتهم إلى طريق الحق ، وبالطبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ، وبالغفلة التي ليس بعدها غفلة ، وبالخسران الذي لا شك فيه يوم القيامة ، نعوذ بالله ـ تعالى ـ من ذلك.
ثم بين ـ سبحانه ـ جانبا من مظاهر لطفه ورأفته لقوم هاجروا من بعد ما فتنوا ، فقال ـ تعالى ـ :
(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١١١)
وقوله ـ سبحانه ـ : (مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) أى : عذبوا وأوذوا من أجل أن يرتدوا إلى الكفر.
وأصل الفتن : إدخال الذهب في النار لتظهر جودته من رداءته ، ثم استعمل في الاختبار