والفعل ضرب في قوله ـ تعالى ـ : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً ...) متضمن معنى جعل ، ولذا عدى إلى مفعولين.
والمثل ـ بفتح الثاء ـ بمعنى المثل ـ بسكونها ـ أى : النظير والشبيه. ويطلق على القول السائر المعروف ، لمماثلة مضربه ـ وهو الذي يضرب فيه لمورده الذي ورد فيه ، ثم استعير للصفة والحال كما في الآية التي معنا.
والمراد بالقرية : أهلها ، فالكلام على تقدير مضاف.
وللمفسرين اتجاهان في تفسير هذه الآية. فمنهم من يرى أن هذه القرية غير معينة ، وإنما هي مثل لكل قوم قابلوا نعم الله بالجحود والكفران.
وإلى هذا المعنى اتجه صاحب الكشاف حيث قال : قوله ـ تعالى ـ : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً ...) أى : جعل القرية التي هذه حالها مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة. فكفروا وتولوا ، فأنزل الله بهم نقمته ، فيجوز أن تراد قرية مقدرة على هذه الصفة ، وأن تكون في قرى الأولين قرية كانت هذه حالها ، فضرب بها الله مثلا لمكة إنذارا من مثل عاقبتها (١).
ومنهم من يرى أن المقصود بهذه القرية مكة ، وعلى هذا الاتجاه سار الامام ابن كثير حيث قال ما ملخصه : هذا مثل أريد به أهل مكة ، فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة ، يتخطف الناس من حولها ، ومن دخلها كان آمنا ... فجحدت آلاء الله عليها ، وأعظمها بعثة محمد صلىاللهعليهوسلم فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون (٢).
ويبدو لنا أن الاتجاه الأول أقرب إلى الصواب ، لتنكير لفظ قرية ، ولشموله الاتجاه الثاني ، لأنه يتناول كل قرية بدلت نعمة الله كفرا ، ويدخل في ذلك كفار مكة دخولا أوليا.
فيكون المعنى : وجعل الله قرية موصوفة بهذه الصفات مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم بهذه النعم ، فلم يشكروا الله ـ تعالى ـ عليها ، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وقوله : (كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً) أى : كانت تعيش في أمان لا يشوبه خوف ، وفي سكون واطمئنان لا يخالطهما فزع أو انزعاج :.
وقوله : (يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ) بيان لسعة عيشها ، أى : يأتيها ما يحتاج إليه أهلها واسعا لينا سهلا من كل مكان من الأمكنة.
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٦٣٩.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٨٩.