ثم بين ـ سبحانه ـ أن مصير جميع الخلائق إليه ، وأنه محيط بأحوالهم فقال. (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ ، إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ ، أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) ...
أى : ربكم ـ أيها الناس ـ أعلم بكم من أنفسكم ، وهو ـ سبحانه ـ إن يشأ بفضله يرحمكم ، بأن يوفقكم لطاعته وتقواه ، وإن يشأ بعدله يعذبكم ، بسبب معاصيكم وفسوقكم عن أمره ، لا يسأل ـ عزوجل ـ عما يفعل ، (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ).
وقوله ـ تعالى ـ : (وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) بيان لوظيفة الرسول صلىاللهعليهوسلم.
أى : وما أرسلناك ـ أيها الرسول الكريم ـ إلى الناس ، لتكون حفيظا ورقيبا. وموكولا إليك أمرهم في إجبارهم وإكراههم على الدخول في الإسلام ، وإنما أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا. وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا.
ثم انتقل ـ سبحانه ـ من بيان كمال علمه بأحوال الناس ، إلى بيان كمال علمه بجميع من في السموات والأرض ، فقال ـ تعالى ـ : (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).
أى : وربك ـ أيها الرسول الكريم ـ أعلم بأحوال من في السموات والأرض من إنس وجن وملك ، وغير ذلك ، ولا يخفى عليه شيء من ظواهرهم أو بواطنهم ، ولا يعزب عن علمه ـ تعالى ـ شيء من طاعتهم أو معصيتهم ، ولا يعلم أحد سواه من هو أهل منهم للتشرف بحمل رسالته ، وتبليغ وحيه كما قال : ـ تعالى ـ : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ).
وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) بيان لمظهر من مظاهر علمه المطلق ، وفضله العميم : وعطائه الواسع.
والزبور : هو الكتاب الذي أنزله الله ـ تعالى ـ على داود ـ عليهالسلام.
أى : ولقد فضلنا ـ على علم وحكمة منا ـ بعض النبيين على بعض ، بأن جعلنا منهم من كلم الله ، ومنهم من اتخذناه خليلا لنا ، ومنهم من آتيناه البينات وأيدناه بروح القدس ، ومنهم من آتيناه الزبور وهو داود ـ عليهالسلام ـ.
قال الإمام ابن كثير : وقوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) وقوله ـ تعالى ـ : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ...) لا ينافي ما ثبت من الصحيحين أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لا تفضلوا بين الأنبياء» فإن المراد من ذلك هو التفضيل بمجرد التشهى والعصبية ، لا بمقتضى الدليل ، فإذا دل الدليل على شيء وجب اتباعه ، ولا خلاف أن الرسل أفضل عن بقية الأنبياء ، وأن أولى العزم منهم أفضلهم ، وهم الخمسة المذكورون