وهنا يحكى القرآن ما يدل على أن موسى ـ عليهالسلام ـ قد أدرك أنه تجاوز المكان الذي حدده له ربه ـ تعالى ـ للقاء العبد الصالح فقال : (قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ ، فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً).
أى قال موسى لفتاه : ذلك الذي ذكرته لي من أمر نسيانك لخبر الحوت هو الذي كنا نبغيه ونطلبه ، فإن العبد الصالح الذي نريد لقاءه موجود في ذلك المكان الذي فقدنا فيه الحوت.
(فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) أى : فرجعا من طريقهما الذي أتيا منه ، يتتبعان آثارهما لئلا يضلا عنه ، حتى انتهيا عائدين مرة أخرى إلى موضع الصخرة التي فقد الحوت عندها.
وقصصا : من القص بمعنى اتباع الأثر. يقال : قص فلان أثر فلان قصا وقصصا إذا تتبعه.
ثم حكى القرآن ما تم لهما بعد أن عادا إلى مكانهما الأول فقال : (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً).
أى : وبعد أن عادا إلى مكان الصخرة عند مجمع البحرين مرة أخرى وجدا «عبدا من عبادنا» الصالحين. والتنكير في «عبدا» للتفخيم ، والإضافة في «عبادنا» للتشريف والتكريم.
(آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) أى : هذا العبد الصالح منحناه وأعطيناه رحمة عظيمة من عندنا وحدنا لا من عند غيرنا : واختصصناه بها دون غيره.
وهذه الرحمة تشمل النعم التي أنعم الله ـ تعالى ـ بها عليه ـ كنعمة الهداية والطاعة وغيرهما.
(وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) أى : وعلمناه من عندنا لا من عند غيرنا علما خاصا ، لا يتيسر إلا لمن نريد تيسيره ومنحه له.
والمراد بهذا العبد : الخضر ـ عليهالسلام ـ كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة.
ومن العلماء من يرى أنه كان نبيا ، ومنهم من يرى أنه كان عبدا صالحا اختصه الله بلون معين من العلم اللدني.
أخرج البخاري وغيره عن أبى هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إنما سمى الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء ، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء» (١).
ويرى المحققون من العلماء أنه قد مات كما يموت سائر الناس. وإلى ذلك ذهب الإمام
__________________
(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٣١٩.