وضعوه في المنجنيق وأرادوا قذفه في النار المهيبة ، ولكنه مع ذلك لم يطلب شيئاً من الملائكة على مستوى انقاذه من الهلكة ، وعند ما قالت له الملائكة : هل لك حاجة؟ قال : لي حاجة ولكن ليست إليكم ، وعند ما قيل له : اطلب حاجتك من الله لينقذك من هذه النار المحرقة ، فقال : «حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي» (١).
وهذه الدرجة العالية من التوكل يندر وجودها بين الناس ، وهي من خواص مقام الصديقين الّذين يعيشون الذوبان والعشق للذات المقدسة والغرق في صفات جماله وجلاله.
٥ ـ طرق تحصيل التوكل
لقد ذكر علماء الأخلاق طرقاً للتوصل إلى حالة التوكل وكلّ منها بمثابة عامل مؤثر لاكتساب هذه الفضيلة الأخلاقية الكبيرة ، ومن ذلك : التوجه إلى حالة (التوحيد الأفعالي) وأن يعلم الإنسان يقيناً بأن كلّ شيء في عالم الوجود متصلاً بذاته المقدسة ومرتبط بها وأنّ الله تعالى هو مصدر عالم الوجود والعلّة التامة لوجوده ووجود الكائنات وانه مسبّب الأسباب ، فلا مؤثر في الوجود إلّا بأمره وكلّ المخلوقات إنما تقتات من صفات مائدة فضله ورحمته وكرمه.
فبعد التأمل والتدبر في هذه الامور يعود ينظر إلى حالاته الذاتية ليرى كيف أنّ الله تعالى اخرجه من صقع العدم والظلمة إلى نور الوجود وألبسه رداء الوجود ومنحه كلّ تلك القوى والمواهب الكثيرة المادية والمعنوية ورعاه عند ما كان في رحم امّه في (ظلمات ثلاث) حيث لم تكن تصل إليه يد إنسان ، ومع ذلك فإنه كان يتقلب في نعمة الله وفضله ولم يحتج إلى شيء إلّا وأنعم الله به عليه.
وبعد أن خرج من عالم الرحم إلى فضاء هذه الدنيا فإنّ الله تعالى وهب له كلّما يحتاجه من شرائط الحياة وما يفتقر إليه في بقائه وسلامته ، من لبن الامّ إلى محبتها ورعايتها والسهر
__________________
١ ـ اقتباس من معراج السعادة ، ص ٧٨٦.