والضمير في قوله ـ تعالى ـ : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) يعود للأكثر من الناس. أى : هؤلاء الأكثرون من الناس ، من أسباب جهلهم بسنن الله ـ تعالى ـ في خلقه ، أنهم لا يهتمون إلا بملاذ الحياة الدنيا ومتعها وشهواتها ، ووسائل المعيشة فيها.
(وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ) وما فيها من حساب وثواب وعقاب (هُمْ غافِلُونَ) لأنهم آثروا الدار العاجلة ، على الدار الباقية ، فهم ـ كما قال ـ تعالى ـ : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ).
قال صاحب الكشاف ما ملخصه : وقوله : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً) بدل من قوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).
وفي هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه ، وجعله بحيث يقوم مقامه ، ويسد مسده. ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل ، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا .. وفي تنكير قوله : (ظاهِراً) إشارة إلى أنهم لا يعلمون إلا ظاهرا واحدا من جملة ظواهر الحياة الدنيا (١).
فالآية الكريمة تنعى على هؤلاء الكافرين وأشباههم ، انهماكهم في شئون الدنيا انهماكا تاما ، جعلهم غافلين عما ينتظرهم في أخراهم من حساب وعقاب. ورحم الله القائل :
ومن البلية أن ترى لك صاحبا |
|
في صورة الرجل السميع المبصر |
فطن بكل مصيبة في ماله |
|
وإذا يصاب بدينه لم يشعر |
ثم حضهم ـ سبحانه ـ على التفكر في خلق أنفسهم ، وعلى التفكير في ملكوت السموات والأرض ، لعل هذا التفكر والتدبر يهديهم إلى الصراط المستقيم ، فقال ـ تعالى ـ :
(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٣٦٨.