ولما كان حب الناس لأديانهم فوق حبهم لأموالهم ، لا جرم بدأ فرعون يذكر الدين فقال : (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) ثم أتبعه بذكر فساد الدنيا فقال : (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) (١).
ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قاله موسى ـ عليهالسلام ـ بعد أن سمع من فرعون تهديداته له ، وتطاوله عليه ، فقال ـ تعالى ـ : (وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ).
وقوله (عُذْتُ) بمعنى استجرت ولجأت. يقال : عاذ فلان بفلان واستعاذ به ، إذا لجأ إليه. واستجار به.
أى : وقال موسى ـ عليهالسلام ـ لقومه على سبيل التثبيت لهم على الحق يا قوم. إنى استجرت وتحصنت بربي وربكم من شر كل مستكبر عن الإيمان بالحق ، كافر بيوم الحساب وما فيه من ثواب وعقاب.
وفي هذا القول الذي قاله موسى لقومه : يتجلى صدق إيمانه ، وقوة يقينه ووثوقه برعاية الله ـ تعالى ـ له ، كما يتجلى فيه حرصه على نصحه لقومه بالثبات على الحق ، لأن الله ـ تعالى ـ الذي هو ربه وربهم ، كفيل برعايته ورعايتهم وبانجائه وبإنجائهم من فرعون وملئه ، كما يتجلى فيه أن الاستكبار عن اتباع الحق ، والتكذيب بالبعث ، على رأس الأسباب التي تعين على قسوة القلب ، وفساد النفس.
قال صاحب الكشاف : وقوله : (وَرَبِّكُمْ) فيه بعث لهم على أن يقتدوا به ، فيعوذوا بالله عياذه ، ويعتصموا بالتوكل عليه اعتصامه ، وقال : (مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ) لتشمل استعاذته من فرعون وغيره من الجبابرة ، وليكون على طريقة التعريض ، فيكون أبلغ. وأراد بالتكبر : الاستكبار عن الإذعان للحق ، وهو أقبح استكبار وأدله على دناءة صاحبه ، ومهانة نفسه ، وعلى فرط ظلمه وعسفه.
وقال : (لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) لأنه إذا اجتمع في الرجل التجبر والتكذيب بالجزاء وقلة المبالاة بالعاقبة ، فقد استكمل أسباب القسوة والجراءة على الله وعباده. ولم يترك عظيمة إلا ارتكبها .. (٢).
__________________
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٧ ص ٣٠٣.
(٢) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٦١.