قال الجمل : وإطلاق الذرية على الأصول صحيح ، فإن لفظ الذرية مشترك بين الضدين ، الأصول والفروع ؛ لأن الذرية من الذرء بمعنى الخلق. والفروع مخلوقون من الأصول ، والأصول خلقت منها الفروع. فاسم الذرية يقع على الآباء كما يقع على الأولاد (١).
وهذا الرأى الثاني قد اختاره الإمام ابن كثير ولم يذكر سواه ، فقد قال رحمهالله : يقول ـ تعالى ـ : ودلالة لهم ـ أيضا ـ على قدرته ـ تعالى ـ تسخيره البحر ليحمل السفن ، فمن ذلك ـ بل أوله ـ سفينة نوح التي أنجاه الله فيها بمن معه من المؤمنين ، ولهذا قال : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ) أى : آباءهم.
(فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) أى : في السفينة المملوءة بالأمتعة والحيوانات ، التي أمره الله أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين (٢).
وقوله ـ تعالى ـ : (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) بيان لنعمة أخرى من نعمه ـ تعالى ـ على عباده.
والضمير في قوله ـ تعالى ـ : (مِنْ مِثْلِهِ) يعود على السفن المشبهة لسفينة نوح ـ عليهالسلام ـ.
قال القرطبي : ما ملخصه قوله ـ تعالى ـ : (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) والأصل ما يركبونه ... والضمير في «من مثله» للإبل. خلقها لهم للركوب في البر ، مثل السفن المركوبة في البحر ، والعرب تشبه الإبل بالسفن. وقيل إنه للإبل والدواب وكل ما يركب.
والأصح أنه للسفن. أى : خلقنا لهم سفنا أمثالها ، أى : أمثال سفينة نوح يركبون فيها.
قال الضحاك وغيره : هي السفن المتخذة بعد سفينة نوح ـ عليهالسلام ـ (٣).
ثم بين ـ سبحانه ـ مظهرا آخر من مظاهر فضله على الناس فقال : (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ. إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ).
الصريخ : المغيث. أى : فلا مغيث لهم. أو فلا إغاثة لهم ، على أنه مصدر كالصراخ ، لأن المستغيث الخائف ينادى من ينقذه ، فيصرخ المغيث له قائلا : جاءك الغوث والعون.
والاستثناء هنا مفرغ من أعم العلل.
أى : وإن نشأ أن نغرق هؤلاء المحمولين في السفن أغرقناهم ، دون أن يجدوا من يغيثهم
__________________
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٥١٥.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٥٦٥.
(٣) تفسير القرطبي ج ١٥ ص ٣٤.