وكان بين نوح وإبراهيم ، نبيان كريمان هما : هود ، وصالح ـ عليهماالسلام ـ والظرف في قوله ـ تعالى ـ : (إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) متعلق بمحذوف تقديره : اذكر أى : اذكر ـ أيها العاقل لتعتبر وتتعظ ـ وقت أن جاء إبراهيم إلى ربه بقلب سليم من الشرك ومن غيره من الآفات كالحسد والغل والخديعة والرياء.
والمراد بمجيئه ربه بقلبه : إخلاص قلبه لدعوة الحق ، واستعداده لبذل نفسه وكل شيء يملكه في سبيل رضا ربه ـ عزوجل ـ.
فهذا التعبير يفيد الاستسلام المطلق لربه والسعى الحثيث في كل ما يرضيه.
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى المجيء بقلبه ربه؟ قلت : معناه أنه أخلص لله قلبه ، وعرف ذلك منه فضرب المجيء مثلا لذلك (١).
وقوله : (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ) شروع في حكاية ما دار بينه وبين أبيه وقومه. والجملة بدل من الجملة السابقة عليها ، أو هي ظرف لقوله (سَلِيمٍ) أى : لقد كان إبراهيم ـ عليهالسلام ـ سليم القلب ، نقى السريرة ، صادق الإيمان ، وقت أن جادل أباه وقومه قائلا لهم : أى شيء هذا الذي تعبدونه من دون الله ـ تعالى ـ ثم أضاف إلى هذا التوبيخ لهم توبيخا آخر فقال لهم : (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ)؟. والإفك أسوأ الكذب. يقال أفك فلان يأفك إفكا فهو أفوك .. إذا اشتد كذبه. وهو مفعول به لقوله (تُرِيدُونَ) وقوله (آلِهَةً) بدل منه. وجعلت الآلهة نفس الإفك على سبيل المبالغة.
أى : أتريدون إفكا آلهة دون الله؟ إن إرادتكم هذه يمجها ويحتقرها كل عقل سليم.
ثم حذرهم من السير في طريق الشرك فقال : (فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ).
والاستفهام للإنكار والتحذير من سوء عاقبتهم إذا ما استمروا في عبادتهم لغيره ـ تعالى ـ. أى : فما الذي تظنون أن يفعله بكم خالقكم ورازقكم إذا ما عبدتم غيره؟ إنه لا شك سيحاسبكم على ذلك حسابا عسيرا ، ويعذبكم عذابا أليما ، وما دام الأمر كذلك فاتركوا عبادة هذه الآلهة الزائفة. وأخلصوا عبادتكم لخالقكم ورازقكم.
قال الآلوسى : قوله : (فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) أى : أى شيء ظنكم بمن هو حقيق بالعبادة ، لكونه ربا للعالمين؟ أشككتم فيه حتى تركتم عبادته ـ سبحانه ـ بالكلية ، أو أعلمتم أى شيء هو حتى جعلتم الأصنام شركاءه أو أى شيء ظنكم بعقابه ـ عزوجل ـ حتى اجترأتم على الإفك عليه ، ولم تخافوا عذابه. (٢).
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٤٨.
(٢) راجع تفسير الآلوسى ج ٢٣ ص ١١٠.