كانت كما قال ـ سبحانه ـ بعد ذلك : (فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً) أى : شرا وهلاكا عن طريق إحراقه بالنار (فَجَعَلْناهُمُ) ـ بقدرتنا التي لا يعجزها شيء ـ الأسفلين أى : الأذلين المقهورين ، حيث أبطلنا كيدهم. وحولنا النار إلى برد وسلام على عبدنا إبراهيم ـ عليهالسلام ـ.
وهكذا رعاية الله ـ تعالى ـ تحرس عباده المخلصين ، وتجعل العاقبة لهم على القوم الكافرين.
ثم تسوق لنا السورة الكريمة بعد ذلك جانبا آخر من قصة إبراهيم ـ عليهالسلام ـ هذا الجانب يتمثل في هجرته من أجل نشر دعوة الحق وفي تضرعه إلى ربه أن يرزقه الذرية الصالحة ، فتقول : (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ. رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ..).
أى : قال إبراهيم بعد أن نجاه الله ـ تعالى ـ من كيد أعدائه (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) أى : إلى المكان الذي أمرنى ربي بالسير إليه ، وهو بلاد الشام ، وقد تكفل ـ سبحانه ـ بهدايتى إلى ما فيه صلاح ديني ودنياى.
قال القرطبي : «هذه الآية أصل في الهجرة والعزلة. وأول من فعل ذلك إبراهيم ـ عليهالسلام ـ وذلك حين خلصه الله من النار (قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) أى : مهاجر من بلد قومي ومولدي ، إلى حيث أتمكن من عبادة ربي ، فإنه (سَيَهْدِينِ) فيما نويت إلى الصواب (١).
قال مقاتل : هو أول من هاجر من الخلق مع لوط وسارة. إلى الأرض المقدسة وهي أرض الشام ..» (٢).
والسين في قوله (سَيَهْدِينِ) لتأكيد وقوع الهداية في المستقبل ، بناء على شدة توكله ، وعظيم أمله في تحقيق ما يرجوه من ربه ، لأنه ما هاجر من موطنه إلا من أجل نشر دينه وشريعته ـ سبحانه ـ.
ثم أضاف إلى هذا الأمل الكبير في هداية الله ـ تعالى ـ له ، أملا آخر وهو منحه الذرية الصالحة فقال : (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ).
أى : وأسألك يا ربي بجانب هذه الهداية إلى الخير والحق ، أن تهب لي ولدا هو من عبادك الصالحين ، الذين أستعين بهم على نشر دعوتك ، وعلى إعلاء كلمتك.
__________________
(١) تفسير القرطبي ج ١٥ ص ٩٦.
(٢) تفسير القرطبي ج ١٥ ص ٩٧.