وهذا الاتجاه الثاني هو الذي نرجحه ، لأن المقصود بالآية الكريمة وأمثالها تذكير بنى إسرائيل المعاصرين للنبي صلىاللهعليهوسلم بنعم الله عليهم وعلى آبائهم ، حتى يشكروه عليها.
ومن مظاهر هذا الشكر ـ بل على رأسه ـ إيمانهم بما جاءهم به النبي صلىاللهعليهوسلم.
ولكن بنى إسرائيل لم يقابلوا تلك النعم بالشكر ، بل قابلوها بالجحود والحسد للنبي صلىاللهعليهوسلم على ما آتاه الله ـ تعالى ـ من فضله ، فكانت نتيجة ذلك أن لعنهم الله وغضب عليهم ، وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت.
ولقد سبق أن قلنا عند تفسيرنا لقوله ـ تعالى ـ في سورة البقرة : (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ).
والعبرة التي نستخلصها من هذه الآية وأمثالها : أن الله ـ تعالى ـ فضل بنى إسرائيل على غيرهم من الأمم السابقة على الأمة الإسلامية ، ومنحهم الكثير من النعم ولكنهم لم يقابلوا ذلك بالشكر .. فسلب الله عنهم ما حباهم به من نعم. ووصفهم في كتابه بنقض العهد ، وقسوة القلب.
وهذا مصير كل أمة بدلت نعمة الله كفرا ، لأن الميزان عند الله للتقوى والفعل الصالح ، وليس للجنس أو اللون أو النسب (١).
ثم بين ـ سبحانه ـ نعمة أخرى من النعم التي أنعم بها على بنى إسرائيل فقال : (وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ) والبينات جمع بينة ، وهي الدليل الواضح الصريح. و (مِنَ) بمعنى في.
أى : وأعطيناهم ـ فضلا عن كل ما سبق ـ دلائل واضحة ، وشرائع بينة تتعلق بأمر دينهم ، بأن فصلنا لهم الحلال والحرام ، والحسن والقبيح ، والحق والباطل ، فصاروا بذلك على علم تام بشريعتهم ، بحيث لا يخفى عليهم شيء مما اشتملت عليه من أوامر أو نواه ، أو حلال أو حرام.
فالمقصود من هذه الجملة الكريمة أن الله ـ تعالى ـ قد أعطاهم شريعة واضحة لا غموض فيها ولا التباس ، ولا عوج فيها ولا انحراف.
بل إن شريعتهم قد أخبرتهم عن طريق رسلهم بمبعث النبي صلىاللهعليهوسلم وبوجوب إيمانهم به عند ظهوره ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ ، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ ، وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ
__________________
(١) راجع تفسيرنا لسورة البقرة ص ١١٥.