مهتد في منهجه وسلوكه ، والفريق الثاني في النقيض منه.
ثم أكد ـ سبحانه ـ هذا المعنى بأن بين مصير الفريقين فقال : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ).
والمراد بالمثل هنا : الصفة. وهو مبتدأ ، والكلام على تقدير الاستفهام الإنكارى ، وتقدير مضاف محذوف ، والخبر قوله ـ تعالى ـ : (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ). أى : أمثل أهل الجنة كمثل من هو خالد في النار ، أو : أمثل الجنة كمثل جزاء من هو خالد في النار ، وقدر الاستفهام في المبتدأ لأنه مرتب على الإنكارى السابق في قوله : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ).
ورحم الله ـ تعالى ـ صاحب الكشاف ، فقد قال : فإن قلت ما معنى قوله ـ تعالى ـ : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ) كمن هو خالد في النار؟
قلت : هو كلام في صورة الإثبات ، ومعناه النفي والإنكار ، لانطوائه تحت حكم كلام مصدر بحروف الإنكار ، ودخوله في حيزه ، وانخراطه في سلكه ، وهو قوله ـ تعالى ـ : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ..)؟ فكأنه قيل : أمثل الجنة كمن هو خالد في النار ، أى كمثل جزاء من هو خالد في النار؟
فإن قلت : فلم عرّى في حرف الإنكار؟ وما فائدة التعرية؟
قلت : تعريته من حرف الإنكار فيها زيادة تصوير لمكابرة من يسوى بين المتمسك بالبينة والتابع لهواه ، وأنه بمنزلة من يثبت التسوية بين الجنة التي تجرى فيها الأنهار ، وبين النار التي يسقى أهلها الجحيم .. (١).
وقوله ـ سبحانه ـ : (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) تفسير مسوق لشرح محاسن الجنة أى : صفة الجنة التي وعد الله ـ تعالى ـ بها عباده المتقين ، أنها فيها أنهار من ماء ليس متغيرا في طعمه أو رائحته ، وإنما هو ماء طيب لذيذ تشتهيه النفوس.
والماء الآسن : هو الماء الذي تغير طعمه وريحه ، لطول مكثه في مكان معين. يقال : أسن الماء يأسن ـ كضرب ـ يضرب ، إذا تغير.
(وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) أى : وفيها ـ أيضا ـ أنهار من لبن لم يتغير طعمه لا بالحموضة ولا بغيرها مما يجرى على الألبان التي تشرب في الدنيا.
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٣٢١.