ثم أرشدهم ـ سبحانه ـ إلى السلوك الأفضل فقال ـ تعالى ـ : (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ).
أى : ولو أن هؤلاء الذين ينادونك ـ أيها الرسول الكريم ـ من وراء الحجرات ، صبروا عليك حتى تخرج إليهم ولم يتعجلوا بندائك بتلك الصورة الخالية من الأدب ، لكان صبرهم خبرا لهم (وَاللهُ) ـ تعالى ـ (غَفُورٌ رَحِيمٌ) أى : واسع المغفرة والرحمة.
قال صاحب الكشاف : يحكى عن أبى عبيد ـ العالم الزاهد الثقة ـ أنه قال : ما دققت باب عالم قط ، حتى يخرج في وقت خروجه.
وقوله : (أَنَّهُمْ صَبَرُوا) في موضع رفع على الفاعلية ، لأن المعنى : ولو ثبت صبرهم.
فإن قلت : هل من فرق بين قوله (حَتَّى تَخْرُجَ) وإلى أن تخرج؟
قلت : إن «حتى» مختصة بالغاية المضروبة. تقول : أكلت السمكة حتى رأسها ، ولو قلت : حتى نصفها ، أو صدرها ، لم يجز ، و «إلى» عامة في كل غاية ، فقد أفادت «حتى» بوضعها : أن خروج رسول الله صلىاللهعليهوسلم إليهم غاية قد ضربت لصبرهم ، فما كان لهم أن يقطعوا أمرا دون الانتهاء إليه.
فإن قلت : فأى فائدة في قوله (إِلَيْهِمْ)؟ قلت : فيه أنه لو خرج ولم يكن خروجه إليهم ولأجلهم ، للزمهم أن يصبروا إلى أن يعلموا أن خروجه إليهم (١).
هذا والمتدبر في هذه الآيات الكريمة ، يراها قد رسمت للمؤمنين أسمى ألوان الأدب في مخاطبتهم لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وفي إلزامهم بألا يقولوا قولا أو يفعلوا فعلا ، يتعلق بشأن من شئون دينهم إلا بعد معرفتهم بأن هذا القول أو الفعل يستند إلى حكم شرعي ، شرعه الله ـ تعالى ـ ورسوله صلىاللهعليهوسلم.
كما أنه يراها قد مدحت الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وذمت الذين لا يلتزمون هذا الأدب عند مخاطبته أو ندائه.
ثم وجهت السورة نداء ثالثا إلى المؤمنين أمرتهم فيه بالتثبت من صحة الأخبار التي تصل إليهم ، وأرشدتهم إلى مظاهر فضل الله ـ تعالى ـ عليهم ؛ لكي يواظبوا على شكره ، فقال ـ تعالى ـ :
__________________
(١) راجع تفسير الكشاف ج ٤ ص ٣٥٩.