فالتجسس مأخوذ من الجس ، وهو البحث عما خفى من أمور الناس ، وقرأ الحس وأبو رجاء : ولا تحسسوا من الحس ، وهما بمعنى واحد. وقيل هما متغايران التجسس ـ بالجيم ـ معرفة الظاهر ، وأن التحسس ـ بالحاء ـ تتبع البواطن وقيل بالعكس ..
وعلى أية حال فالمراد هنا من التجسس والتحسس : النهى عن تتبع عورات المسلمين ، أخرج أبو داود وغيره عن أبى برزة الأسلمى قال : خطبنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه. لا تتبعوا عورات المسلمين ، فإن من تتبع عورات المسلمين ، فضحه الله ـ تعالى ـ في قعر بيته».
وعن معاوية بن أبى سفيان قال : سمعت النبي صلىاللهعليهوسلم يقول : «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم» (١).
ثم نهى ـ سبحانه ـ بعد ذلك عن الغيبة فقال : (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) والغيبة ـ بكسر الغين ـ أن تذكر غيرك في غيابه بما يسوءه يقال : اغتاب فلان فلانا ، إذا ذكره بسوء في غيبته ، سواء أكان هذا الذكر بصريح اللفظ أم بالكناية ، أم بالإشارة ، أم بغير ذلك.
روى أبو داود وغيره عن أبى هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «أتدرون ما الغيبة؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : ذكرك أخاك بما يكره. قيل : أرأيت إن كان في أخى ما أقول؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه (٢).
ثم ساق ـ سبحانه ـ تشبيها ينفر من الغيبة أكمل تنفير فقال : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ). والاستفهام للتقرير لأنه من الأمور المسلمة أن كل إنسان يكره أكل لحم أخيه حيا ، فضلا عن أكله ميتا.
والضمير في قوله : (فَكَرِهْتُمُوهُ) يعود على الأكل المفهوم من قوله (يَأْكُلَ) و (مَيْتاً) حال من اللحم أو من الأخ.
أى : اجتنبوا أن تذكروا غيركم بسوء في غيبته ، فإن مثل من يغتاب أخاه المسلم كمثل من يأكل لحمه وهو ميت ، ولا شك أن كل عاقل يكره ذلك وينفر منه أشد النفور.
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الجملة : قوله ـ تعالى ـ : (أَيُحِبُ
__________________
(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٣٥٧.
(٢) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٣٥٩.