أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ ..) تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض غيره على أفظع وجه وأفحشه.
وفيه مبالغات شتى : منها الاستفهام الذي معناه التقرير ، ومنها : جعل ما هو الغاية في الكراهة موصولا بالمحبة ، ومنها : إسناد الفعل إلى أحدكم ، والإشعار بأن أحدا من الأحدين لا يحب ذلك ، ومنها : أنه ـ سبحانه ـ لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان ، وإنما جعله أخا ، ومنها : أنه لم يقتصر على أكل لحم الأخ وإنما جعله ميتا ..
وانتصب «ميتا» على الحال من اللحم أو من الأخ ... وقوله : (فَكَرِهْتُمُوهُ) فيه معنى الشرط. أى : إن صح هذا فقد كرهتموه ـ فلا تفعلوه ـ وهي الفاء الفصيحة (١).
والحق أن المتأمل في هذه الآية الكريمة يراها قد نفرت من الغيبة بأبلغ أسلوب وأحكمه ، لأنها من الكبائر والقبائح التي تؤدى إلى تمزق شمل المسلمين ، وإيقاد نار الكراهية في الصدور.
قال الآلوسى ما ملخصه : وقد أخرج العلماء أشياء لا يكون لها حكم الغيبة ، وتنحصر في ستة أسباب :
الأول : التظلم ، إذ من حق المظلوم أن يشكو ظالمه إلى من تتوسم فيه إزالة هذا الظلم.
الثاني : الاستعانة على تغيير المنكر بذكره لمن يظن قدرته على إزالته.
الثالث : الاستفتاء ، إذ يجوز للمستفتى أن يقول للمفتي : ظلمني فلان بكذا ..
الرابع : تحذير المسلمين من الشر ، كتجريح الشهود والرواة والمتصدين للإفتاء بغير علم.
الخامس : المجاهرون بالمعاصي وبارتكاب المنكرات ، فإنه يجوز ذكرهم بما تجاهروا به ..
السادس : التعريف باللقب الذي لا يقصد به الإساءة كالأعمش والأعرج (٢).
ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بدعوة المؤمنين إلى التوبة والإنابة فقال : (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ). أى : واتقوا الله ـ أيها المؤمنون ـ بأن تصونوا أنفسكم عن كل ما أمركم ـ سبحانه ـ باجتنابه ، إن الله ـ تعالى ـ كثير القبول لتوبة عباده ، الذين يتوبون من قريب ، ويرجعون إلى طاعته رجوعا مصحوبا بالندم على ما فرط منهم من ذنوب ، ومقرونا بالعزم على عدم العودة إلى تلك الذنوب لا في الحال ولا في الاستقبال ، ومستوفيا لكل ما تستلزمه التوبة الصادقة من شروط.
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٣٧٣.
(٢) راجع تفسير الآلوسى ج ٢٦ ص ١٦١.