معنى أنهم نسبوا إليه ما ذكر ، ومن حالهم أن أحدهم إذا بشر به اغتم ، والالتفات إلى الغيبة للإيذان بأن قبائحهم اقتضت الإعراض عنهم ، وتحكى لغيرهم ليتعجب منها. و (بِما) في قوله (بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً) موصولة ومعناها البنات وضرب بمعنى جعل ، والمفعول الأول الذي هو عائد الموصول محذوف. أى : ضربه ، ومثلا هو المفعول الثاني ، والمثل بمعنى الشبه أى المشابه (١).
ثم أضاف ـ سبحانه ـ إلى تبكيتهم السابق تبكيتا آخر فقال : (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ).
والاستفهام للإنكار. وكلمة (مَنْ) عبارة عن جنس الإناث ، وهي في محل نصب بمضمر معطوف على (جَعَلُوا) و (يُنَشَّؤُا) يربى وينشأ. يقال : نشأ فلان في بنى فلان ، إذا شب وترعرع فيهم و (الْحِلْيَةِ) : اسم لما يتحلى ويتزين به.
أى : أيجترئون ويجعلون لله ـ تعالى ـ الإناث ، اللائي من شأنهن أن ينشأن في الزينة ، لأن هذه الحياة هي المناسبة لهن ولتكوينهن الجسدى ، واللائي من شأن معظمهن أنهن لا يقدرن على الدفاع عن أنفسهن لضعفهن وقصورهن في الجدال وفي بيان الحجة التي ترد الخصم ، وتزيل الشبهة ..
فالمقصود من الآية الكريمة تأنيب هؤلاء المشركين على جهلهم وسوء أدبهم ، حيث إنهم نسبوا إلى الله ـ تعالى ـ الإناث اللائي من شأنهن النشأة في الحلية والدعة والنعومة ، فصرن بمقتضى هذه النشأة ، وبمقتضى تكوينهن البدني والعقلي ، لا يقدرن على جدال أو قتال .. بينما نسبوا إلى أنفسهم الذكور الذين هم قوامون على النساء.
وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى). ثم توعدهم ـ سبحانه ـ بسوء المصير بسبب افترائهم الكذب فقال : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ، أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ..) والجعل هنا بمعنى القول والحكم على الشيء ، كما تقول جعلت زيدا أفضل الناس ، أى حكمت عليه بذلك.
أى : أن هؤلاء المشركين زعموا وحكموا بأن الملائكة الذين هم عباد الرحمن ، وصفوة خلقه ، وأهل طاعته ، زعموا أنهم إناث ، فهل كانوا حاضرين وقت أن خلقناهم حتى حكموا عليهم بهذا الحكم الباطل؟
كلا إنهم لم يكونوا حاضرين ، ولذا (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ) في صحائف أعمالهم المليئة بالسيئات (وَيُسْئَلُونَ) عنها سؤال تأنيب وتوبيخ يوم القيامة.
__________________
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٨٠.