وقوله : (بَراءٌ) مصدر وقع موقع الصفة وهي برىء ، على سبيل المبالغة في التبري من عبادتهم لغير الله ـ تعالى ـ يقال : تبرأت من فلان ، فأنا منه براء.
أى : كرهت قوله وفعله والقرب منه.
والاستثناء في قوله : (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) منقطع ، أى : أنا برىء من عبادة أصنامكم ، لكني أعبد الذي خلقني وفطرني بقدرته ، فإنه هو الذي سيهدين إلى الصراط المستقيم.
ويصح أن يكون متصلا بناء على أنهم كانوا يعبدون الله ـ تعالى ـ ويشركون معه في هذه العبادة أصنامهم.
أى : إننى برىء من عبادة أصنامكم ، إلا أنى لا أعبد إلا الله ـ تعالى ـ الذي فطرني.
أى : خلقني بقدرته على غير مثال سابق.
وقال هنا (سَيَهْدِينِ) وقال في آية أخرى : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) ، للدلالة على ثقة إبراهيم ـ عليهالسلام ـ بفضل ربه ـ تعالى ـ عليه ، وأنه يهديه في الحال وفي الاستقبال ، وأن هذه الهداية مصاحبة له في كل وقت من أوقات حياته.
ومن الآيات الكثيرة التي تشبه هاتين الآيتين قوله ـ تعالى ـ حكاية عن نبيه إبراهيم : (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ ، فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ...) (١).
وقوله ـ سبحانه ـ : (قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ. فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ. الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ.) (٢).
والضمير المنصوب في قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ ...) يعود إلى كلمة التوحيد ، المشتملة على البراءة من كل عبادة لغير الله ـ تعالى ـ ، والمعبر عنها قبل ذلك بقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ).
وضمير الفاعل المستتر في قوله ـ سبحانه ـ : (وَجَعَلَها ...) يعود إلى الله ـ تعالى ـ.
أى : وجعل الله ـ تعالى ـ بفضله وكرمه ، كلمة التوحيد ، باقية في عقب ابراهيم ، وفي
__________________
(١) سورة الأنعام الآية ٧٨ ، ٧٩.
(٢) سورة الشعراء الآيات ٧٥ ـ ٧٨.