(آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) أى : هم منعمون في الجنات وما اشتملت عليه من عيون جارية ، حالة كونهم آخذين وقابلين لما أعطاهم ربهم من فضله وإحسانه.
وقوله : (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) بمثابة التعليل لما قبله. أى : هم في هذا الخير العميم من ربهم لأنهم ، كانوا قبل ذلك ـ أى : في الدنيا ـ محسنين لأعمالهم ، ومؤدين لكل ما أمرهم به ـ سبحانه ـ بإتقان وإخلاص.
ثم بين ـ سبحانه ـ مظاهر إحسانهم فقال : (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) أى كانوا ينامون من الليل وقتا قليلا ، أما أكثره فكانوا يقضونه في العبادة والطاعة.
والهجوع : النوم ليلا ، وقيده بعضهم بالنوم القليل ، إذ الهجعة هي النومة الخفيفة ، تقول : أتيت فلانا بعد هجعة ، أى بعد نومة قليلة.
عن الحسن قال : كانوا لا ينامون من الليل إلا أقله ، كابدوا قيام الليل.
ثم مدحهم ـ سبحانه ـ بصفة أخرى فقال : (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) والأسحار جمع سحر ، وهو الجزء الأخير من الليل.
أى ، وكانوا في أوقات الأسحار يرفعون أكف الضراعة إلى الله ـ تعالى ـ يستغفرونه مما فرط منهم من ذنوب ، ويلتمسون منه ـ تعالى ـ قبول توبتهم وغسل حوبتهم.
قال الإمام الرازي ما ملخصه : وفي الآية إشارة إلى أنهم كانوا يتهجدون ويجتهدون ، ثم يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك ، وأخلص منه ، ويستغفرون من التقصير ، وهذه سيرة الكريم : يأتى بأبلغ وجوه الكرم ويستقله ، ويعتذر من التقصير ، واللئيم يأتى بالقليل ويستكثره.
وفيه وجه آخر ألطف منه : وهو أنه ـ تعالى ـ لما بين أنهم يهجعون قليلا ، والهجوع مقتضى الطبع. قال (يَسْتَغْفِرُونَ) أى : من ذلك القدر من النوم القليل.
ومدحهم بالهجوع ولم يمدحهم بكثرة السهر ... للإشارة إلى أن نومهم عبادة ، حيث مدحهم بكونهم هاجعين قليلا ، وذلك الهجوع أورثهم الاشتغال بعبادة أخرى ، وهو الاستغفار ... في وجوه الأسحار ، ومنعهم من الإعجاب بأنفسهم ومن الاستكبار .. (١).
ثم مدحهم ـ سبحانه ـ للمرة الثالثة فقال : (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ).
والسائل : هو من يسأل غيره العون والمساعدة. والمحروم : هو المتعفف عن السؤال مع أنه لا مال له لحرمان أصابه ، بسبب مصيبة نزلت به ، أو فقر كان فيه .. أو ما يشبه ذلك.
__________________
(١) راجع تفسير الفخر الرازي ج ٧ ص ٦٣٥.