وعن الأحنف : كل عز لم يوطد بعلم فإلى ذل يصير (١).
ثم أرشدهم ـ سبحانه ـ إلى لون ثالث من الأدب السامي ، فناداهم للمرة الثالثة بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا ، فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
والمراد بقوله ـ تعالى ـ (إِذا ناجَيْتُمُ) : إذا أردتم المناجاة ، كما في قوله تعالى (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ).
والمراد بقوله : (بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ) أى : قبل مناجاتكم للرسول صلىاللهعليهوسلم بقليل ، والكلام من باب الاستعارة التمثيلية. حيث شبهت هيئة قرب الشيء من آخر. بهيئة وصول الشخص إلى من يريد الوصول إليه ، على سبيل تشبيه المعقول بالمحسوس.
واسم الإشارة في قوله : (ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) يعود إلى تقديم الصدقة ، والجملة بمنزلة التعليل للأمر بتقديمها.
والمعنى : يا من آمنتم بالله ـ تعالى ـ حق الإيمان ، إذا أردتم مناجاة الرسول صلىاللهعليهوسلم والحديث معه في أمر ما على سبيل السر ، فقدموا صدقة للفقراء قبل مناجاته صلىاللهعليهوسلم فذلك التقديم خير لكم لما فيه من الثواب ، وأكثر طهرا لنفوسكم ، فإن لم تجدوا شيئا تتصدقون به قبل مناجاتكم له صلىاللهعليهوسلم فلا تحزنوا فإن الله ـ تعالى ـ واسع المغفرة والرحمة.
وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات ، منها : ما جاء عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ أنه قال : نزلت بسبب أن المسلمين كانوا يكثرون المسائل على رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى شقوا عليه ، فأراد الله ـ تعالى ـ أن يخفف عن نبيه صلىاللهعليهوسلم فلما نزلت هذه الآية ، كف كثير من الناس ، ثم وسع الله عليهم بالآية التي بعدها (٢).
وقال بعض العلماء : إن هذا الأمر قد اشتمل على فوائد كثيرة :
منها : تعظيم أمر الرسول صلىاللهعليهوسلم وإكبار شأن مناجاته ، كأنها شيء لا ينال بسهولة.
ومنها : التخفيف عن النبي صلىاللهعليهوسلم بالتقليل من المناجاة ، حتى يتفرغ صلىاللهعليهوسلم للمهام العظمى التي كلفه ـ سبحانه ـ بها.
ومنها : تهوين الأمر على الفقراء الذين قد يغلبهم الأغنياء على مجلس الرسول صلىاللهعليهوسلم
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٧٦.
(٢) تفسير القرطبي ج ١٧ ص ٣٠١.