قلت : «ثم تتجلى لهم الحقائق على ما هي عليه ، إذ تصير العلوم على الحقيقة» (١).
ثم بين ـ سبحانه ـ الأسباب التي جعلت المنافقين ينغمسون في نفاقهم فقال : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ ..).
وقوله : (اسْتَحْوَذَ) من الحوذ : وهو أن يتبع السائق حاذيى البعير ، أى : أدبار فخذه ثم يسوقه سوقا عنيفا ، لا يستطيع البعير الفكاك منه ... والمراد به هنا : شدة الاستيلاء والغلبة ... ومنه قول السيدة عائشة في عمر ـ رضى الله عنهما ـ : «كان أحوذيا» أى : كان ضابطا للأمور ، ومستوليا عليها استيلاء تاما ...
والمعنى : إن هؤلاء المنافقين قد استولى عليهم الشيطان استيلاء تاما ، بحيث صيرهم تابعين لوساوسه وتزيينه ، فهم طوع أمره ، ورهن إشارته ، فترتب على طاعتهم له أن أنساهم طاعة الله ـ تعالى ـ ، وحسابه ، وجزاءه ، فعاشوا حياتهم يتركون ما هو خير ، ويسرعون نحو ما هو شر ...
(أُولئِكَ) الموصوفون بتلك الصفات القبيحة (حِزْبُ الشَّيْطانِ) أى : جنوده وأتباعه (أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) خسارة لا تقاربها خسارة ، لأنهم آثروا العاجل على الآجل ، والفاني على الباقي ، والضلال على الهدى ...
ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة ببيان سنة من سننه في خلقه ، وهي أن الذلة والصغار لأهل الباطل ، والعزة والغلبة لأهل الحق ... الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه ، فقال ـ تعالى ـ :
(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ
__________________
(١) راجع تفسير التحرير والتنوير ، ج ٢٨ ص ٥٣ للشيخ محمد الطاهر بن عاشور.