وعبر ـ سبحانه ـ بالقذف ، لأنه كناية عن الرمي بقوة وعنف وسرعة. والرعب : شدة الخوف والفزع ، وأصله : الامتلاء. تقول : رعبت الحوض إذا ملأته.
أى : وقذف ـ سبحانه ـ في قلوبهم الرعب الذي ملأها بالجزع والفزع فاستسلموا بسبب ذلك لما حكم به الرسول صلىاللهعليهوسلم عليهم.
ثم بين ـ سبحانه ـ ما حدث منهم خلال جلائهم فقال : (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ، فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) والتخريب : إسقاط البناء وهدمه أو إفساده.
أى : أن هؤلاء اليهود ، بلغ من سوء نيتهم ، ومن اضطراب أمرهم ، أنهم عند ما أجمعوا أمرهم على الرحيل عن المدينة ، أخذوا يخربون بيوتهم بأيديهم ، عن طريق إسقاط بنائها ، وهدم السليم منها ، وإزالة ما اشتملت عليه من أبواب وغيرها .. حتى لا ينتفع المسلمون بها من بعدهم ..
وأخذوا يخربونها ـ أيضا ـ بأيدى المؤمنين ، أى : بسبب أن المؤمنين كانوا يزيلون من طريقهم كل عقبة حتى يقتحموا عليهم ديارهم ، فترتب على ذلك أن هدموا بعض بيوت بنى النضير من الخارج ، ليستطيعوا التمكن منهم.
قال صاحب الكشاف : ما معنى تخريبهم لها بأيدى المؤمنين؟ قلت : لما عرّضوهم لذلك ، وكانوا السبب فيه. فكأنهم أمروهم به ، وكلفوهم إياه ... (١).
أى : أن يهود بنى النضير بسبب تحصنهم في ديارهم ، ومحاولتهم عدم النزول على حكم الرسول صلىاللهعليهوسلم حملوا المؤمنين على تخريب هذه الحصون من الخارج ، ليدخلوا عليهم ..
والخطاب في قوله ـ تعالى ـ : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) لكل من يصلح له.
قال الجمل في حاشيته : والاعتبار مأخوذ من العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء ، ولهذا سميت العبرة عبرة ، لأنها تنتقل من العين إلى الخد. وسمى علم التعبير بذلك ، لأن صاحبه ينتقل من المتخيل إلى المعقول ، وسميت الألفاظ عبارات ، لأنها تنقل المعاني من لسان القائل إلى عقل المستمع ، ويقال : السعيد من اعتبر بغيره ، لأنه ينتقل بواسطة عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه.
ولهذا قال القشيري : الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء ، وجهات دلالتها ، ليعرف بالنظر فيها شيء آخر .. (٢).
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٨١.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٣١١.