أى : إذا كان الأمر كما بينا لكم ـ أيها الناس ـ ، فاعتبروا واتعظوا يا أصحاب العقول السليمة ، والعيون الناظرة ، بما جرى لهؤلاء اليهود ، حيث دبر الله ـ تعالى أمر إخراجهم من ديارهم تدبيرا حكيما ، ونصر المؤمنين عليهم بأيسر طريق ، وجعل ديارهم من بعدهم ، خير عبرة وعظة لكل ذي بصر ، فقد خلفوها من بعدهم شاهد صدق على أن الغدر نهايته الخسران .. وعلى أن النصر إنما هو لمن اتبع الصدق والوفاء بالعهد ..
قال الآلوسى : واشتهر الاستدلال بهذه الجملة ، على مشروعية العمل بالقياس الشرعي ، قالوا : لأنه ـ تعالى ـ أمر فيها بالاعتبار ، وهو العبور والانتقال من الشيء إلى غيره ، وذلك متحقق في القياس ، إذ فيه نقل الحكم من الأصل إلى الفرع .. (١).
ثم بين ـ سبحانه ـ جانبا من حكمته في إخراجهم فقال : (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ ، لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا ، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ).
ولفظ «لو لا» هنا حرف امتناع لوجود أى : امتنع وجود جوابها لوجود شرطها .. و «أن» مصدرية ، وهي مع ما في حيزها في محل رفع على الابتداء. لأن لو لا الامتناعية لا يليها إلا المبتدأ ، والخبر محذوف.
والجلاء : الإخراج. يقال : جلا فلان عن مكان كذا ، إذا خرج منه. وأجلاه عنه غيره ، إذا أخرجه عنه :
قال القرطبي : والجلاء مفارقة الوطن ، يقال جلا بنفسه جلاء ، وأجلاه غيره إجلاء ، والفرق بين الجلاء والإخراج ـ وإن كان معناهما في الإبعاد واحدا ـ من وجهين :
أحدهما : أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد ، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد.
الثاني : أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة ، والإخراج يكون لواحد ولجماعة ... (٢).
أى : ولو لا أن الله ـ تعالى ـ قد قدر على هؤلاء اليهود ، الجلاء عن ديارهم ، لو لا أن ذلك موجود ، لعذبهم في الدنيا عذابا شديدا ، استأصل معه شأفتهم.
ولكن الله ـ تعالى ـ كتب عليهم الجلاء دون القتل والإهلاك لمصلحة اقتضتها حكمته ، لعل من مظاهرها أن يغنم المسلمون ديارهم وأموالهم ، دون أن تراق دماء من الفريقين ، ودون أن يعرض المؤمنون أنفسهم لمخاطر القتال.
وجملة «ولهم في الآخرة عذاب النار» مستأنفة. أى : أن هؤلاء اليهود إن نجوا من القتل
__________________
(١) تفسير الآلوسى ج ٢٨ ص ٤١.
(٢) تفسير القرطبي ج ١٨ ص ٦.