أى : أن هؤلاء اليهود وحلفاءهم من المنافقين ، لا يقاتلونكم مجتمعين كلهم في موطن من المواطن إلا في قرى محصنة بالخنادق وغيرها ، أو يقاتلونكم من وراء الجدران التي يتسترون بها ، لأنهم يعجزون عن مبارزتكم ، وعن مواجهتكم وجها لوجه ، لفرط رهبتهم منكم ..
قال ابن كثير : يعنى أنهم في جبنهم وهلعهم ، لا يقدرون على مواجهة جيش الإسلام ، بالمبارزة والمقاتلة ، بل إما في حصون ، أو من وراء جدر محاصرين ، فيقاتلونكم للدفع عنهم ضرورة ... (١).
وقوله ـ تعالى ـ : (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) جملة مستأنفة ، كأن قائلا قال : ولما ذا لا يقاتلون المؤمنين إلا على هذه الصورة؟ فكان الجواب : بأسهم بينهم شديد. أى : عداوتهم فيما بينهم عداوة شديدة ، بحيث لا يتفقون على رأى ، وقوتهم يستعملونها فيما بينهم استعمالا واسعا ، فإذا ما التقوا بكم تحولت هذه القوة إلى جبن وهلع ..
قال صاحب الكشاف : يعنى أن البأس الشديد الذي يوصفون به ، إنما هو فيما بينهم إذا اقتتلوا ، ولو قاتلوكم لم يبق لهم ذلك البأس والشدة ، لأن الشجاع يجبن والعزيز يذل ، عند محاربة الله ورسوله .. (٢).
وقوله ـ تعالى ـ : (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) استئناف آخر للإجابة عما يقال : من أنه كيف تكون عداوتهم فيما بينهم شديدة ، ونحن نراهم متفقين؟.
فكان الجواب : ليس الأمر كما يظهر من حالهم من أن بينهم تضامنا وترابطا .. بل الحق أنهم متدابرون مختلفون متباغضون .. وإن كانت ظواهرهم تدل على خلاف ذلك ..
أى : تحسبهم أيها الناظر إليهم مؤتلفين .. والحال أن قلوبهم متفرقة ، ومنازعهم مختلفة وبواطنهم تباين ظواهرهم .. وما دام الأمر كذلك فلا تبالوا بهم ـ أيها المؤمنون ـ ، بل أغلظوا عليهم ، وجاهدوهم بكل قوة وجسارة ..
واسم الإشارة في قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) يعود إلى ما سبق ذكره ، من شدة عداوتهم فيما بينهم ، ومن مخالفة بواطنهم لظواهرهم.
أى : ذلك الذي ذكرناه لكم من شدة بأسهم فيما بينهم ، ومن مخالفة بواطنهم لظواهرهم ، سببه أنهم قوم لا يعقلون الحق والهدى والرشاد .. وإنما هم ينساقون وراء أهوائهم بدافع من الأحقاد والمطامع والشهوات ، بدون إدراك لعواقب الأمور ، أو للفهم الصحيح ..
__________________
(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٣٤٠.
(٢) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٨٥.