وقال بعض العلماء : والذي تخلص لي أن حكمة السكنى للمطلقة ، أنها حفظ للأعراض ، فإن المطلقة يكثر التفات العيون لها ، وقد يتسرب سوء الظن إليها ، فيكثر الاختلاف عليها ، ولا تجد ذا عصمة يذب عنها ، فلذلك شرعت لها السكنى ، فلا تخرج إلا لحاجياتها الضرورية ..
ومن الحكم ـ أيضا ـ في ذلك أن المطلقة قد لا تجد مسكنا ، لأن غالب النساء لم تكن لهن أموال ، وإنما هن عيال على الرجال ..
ويزاد في المطلقة الرجعية ، قصد استبقاء الصلة بينها وبين مطلقها ، لعله يثوب إليه رشده فيراجعها ..
فهذا مجموع علل ، فإذا تخلفت واحدة منها لم يتخلف الحكم ، لأن الحكم المعلل بعلتين فأكثر لا يبطله سقوط بعضها .. (١).
واسم الإشارة في قوله : (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) يعود إلى الأحكام التي سبق الحديث عنها ، والحدود : جمع حد ، وهو ما لا يصح تجاوزه أو الخروج عنه.
أى : وتلك الأحكام التي بيناها لكم ، هي حدود الله ـ تعالى ـ التي لا يصح لكم تعديها أو تجاوزها ، وإنما يجب عليكم الوقوف عندها ، وتنفيذ ما اشتملت عليه من آداب وهدايات.
ثم بين ـ سبحانه ـ سوء عاقبة من يتجاوز حدوده فقال : (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) أى : ومن يتجاوز حدود الله التي حدها لعباده ، بأن أخل بشيء منها ، فقد حمل نفسه وزرا ، وأكسبها إثما ، وعرضها للعقوبة والعذاب.
وقوله ـ تعالى ـ : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) ترغيب في امتثال الأحكام السابقة ، بعد أن سلك في شأنها مسلك الترهيب من مخالفتها ، ودعوة إلى فتح باب المصالحة بين الرجل وزوجه ، وعدم السير في طريق المفارقة حتى النهاية ..
والخطاب لكل من يصلح له ، أو هو للمتعدى بطريق الالتفات ، والجملة الكريمة مستأنفة ، مسوقة لتعليل مضمون ما قبلها ، وتفصيل لأحواله.
أى : اسلك ـ أيها المسلم ـ الطريق الذي أرشدناك إليه في حياتك الزوجية ، وامتثل ما أمرناك به ، فلا تطلق امرأتك وهي حائض ، ولا تخرجها من بيتها قبل تمام عدتها ... ولا تقفل باب المصالحة بينك وبينها ، بل اجعل باب المصالحة مفتوحا ، فإنك لا تدرى لعل الله ـ تعالى ـ يحدث بعد ذلك النزاع الذي نشب بينك وبين زوجك أمرا نافعا لك ولها ، بأن يحول البغض إلى حب ، والخصام إلى وفاق ، والغضب إلى رضا ..
__________________
(١) تفسير التحرير والتنوير ج ٢٨ ص ٣٠٤ لفضيلة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور.