دعاهم في السر والعلن ، فيجب أن تكون ثلاث دعوات مختلفات حتى يصح العطف؟
قلت : قد فعل ـ عليهالسلام ـ كما يفعل الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، في الابتداء بالأهون والترقي في الأشد فالأشد ، فافتتح بالمناصحة في السر ، فلما لم يقبلوا ثنى بالمجاهرة ، فلما لم تؤثر ثلث بالجمع بين الإسرار والإعلان.
ومعنى «ثم» : الدلالة على تباعد الأحوال ، لأن الجهار أغلظ من الإسرار ، والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما .. (١).
ثم حكى ـ سبحانه ـ جانبا من إرشادات نوح لقومه فقال : (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ).
أى : فقلت لهم ـ على سبيل النصح والإرشاد إلى ما ينفعهم ويغريهم بالطاعة ـ (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) بأن تتوبوا إليه ، وتقلعوا عن كفركم وفسوقكم (إِنَّهُ) ـ سبحانه ـ (كانَ غَفَّاراً).
أى : كثير الغفران لمن تاب إليه وأناب.
(يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) والمراد بالسماء هنا : المطر لأنه ينزل منها ، وقد جاء في الحديث الشريف أن من أسماء المطر السماء ، فقد روى الشيخان عن زيد بن خالد الجهني أنه قال «صلى لنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم صلاة الصبح بالحديبية ، على إثر سماء كانت من الليل ..» أى : على إثر أمطار نازلة بالليل.
ومنه قول بعض الشعرا :
إذا نزل السماء بأرض قوم |
|
رعيناه وإن كانوا غضابا |
والمدرار : المطر الغزير المتتابع ، يقال : درت السماء بالمطر ، إذا نزل منها بكثرة وتتابع ، والدر ، والدرور معناه : السيلان .. فقوله (مِدْراراً) صيغة مبالغة منهما.
أى : استغفروا ربكم وتوبوا إليه ، فإنكم إذا فعلتم ذلك أرسل الله ـ تعالى ـ عليكم بفضله ورحمته ، أمطارا غزيرة متتابعة ، لتنتفعوا بها في مختلف شئون حياتكم.
وفضلا عن ذلك : (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ) أى : بساتين عظيمة ، (وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) جارية تحت أشجار هذه الجنات ، لتزداد جمالا ونفعا.
قال الإمام الرازي ما ملخصه : «إن قوم نوح لما كذبوه زمانا طويلا ، حبس الله عنهم
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦١٦.