وما يجرى على الأمم والشعوب ، يجرى أيضا على الأفراد والجماعات ، فتلك سنة الله التي لا تتغير.
أما الأمم الفاسقة عن أمر ربها ، فإنها مهما أوتيت من ثراء وبسطة في الرزق ... فإن حياتها دائما تكون متلبسة بالقلق النفسي ، والشقاء القلبي ، والاكتئاب الذي يؤدى إلى فساد الحال واضطراب البال.
وقوله ـ سبحانه ـ بعد ذلك حكاية عن نوح ـ عليهالسلام ـ : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً. وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) : بيان لما سلكه نوح في دعوته لقومه ، من جمعه بين الترغيب والترهيب.
فهو بعد أن أرشدهم إلى أن استغفارهم وطاعتهم لربهم ، تؤدى بهم إلى البسطة في الرزق .. أتبع ذلك بزجرهم لسوء أدبهم مع الله ـ تعالى ـ منكرا عليهم استهتارهم واستخفافهم بما يدعوهم إليه.
وقوله : (ما لَكُمْ) مبتدأ وخبر ، وهو استفهام قصد به توبيخهم والتعجيب من حالهم.
ولفظ «ترجون» يرى بعضهم أنه بمعنى تعتقدون. والوقار معناه : التعظيم والإجلال.
والأطوار : جمع طور ، وهو المرة والتارة من الأفعال والأزمان.
أى : ما الذي حدث لكم ـ أيها القوم ـ حتى صرتم لا تعتقدون لله ـ تعالى ـ عظمة أو إجلالا ، والحال أنه ـ سبحانه ـ هو الذي خلقكم وأوجدكم في أطوار متعددة ، نطفة ، فعلقة ، فمضغة.
كما قال ـ سبحانه ـ (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً ، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً ، فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ، ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ، فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١).
وكما قال ـ تعالى ـ (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً ، يَخْلُقُ ما يَشاءُ ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) (٢).
قال القرطبي ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) قيل : الرجاء هنا بمعنى الخوف.
أى : ما لكم لا تخافون لله عظمة وقدرة على أخذكم بالعقوبة.
__________________
(١) سورة المؤمنون الآيات ١٢ ـ ١٤.
(٢) سورة الروم الآية ٥٤.