وبعكس ذلك جعلت الشمس سراجا ، لأنها ملتهبة ، وأنوارها ذاتية فيها ، صادرة عنها إلى الأرض وإلى القمر ، مثل أنوار السراج تملأ البيت .. (١).
ثم انتقل نوح ـ عليهالسلام ـ من تنبيههم إلى ما في خلق السموات والشمس والقمر من دلالة على وحدانية الله وقدرته .. إلى لفت أنظارهم إلى التأمل في خلق أنفسهم ، وفي مبدئهم وإعادتهم إلى الحياة مرة أخرى بعد موتهم ، فقال ـ كما حكى القرآن عنه ـ : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً. ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها ، وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً).
والمراد بأنبتكم : أنشأكم وأوجدكم ، فاستعير الإنبات للإنشاء للمشابهة بين إنبات النبات ، وإنشاء الإنسان ، من حيث إن كليهما تكوين وإيجاد للشيء بقدرته ـ تعالى ـ.
والمراد بأنبتكم : أنبت أصلكم وهو أبوكم آدم ، فأنتم فروع عنه. و (نَباتاً) مصدر لأنبت على حذف الزوائد ، فهو مفعول مطلق لأنبتكم ، جيء به للتوكيد ، ومصدره القياسي «إنباتا» ، واختير «نباتا» لأنه أخف.
قال الجمل : قوله : نباتا ، يجوز أن يكون مصدرا لأنبت على حذف الزوائد. ويسمى اسم مصدر ، ويجوز أن يكون مصدرا لنبتم مقدرا. أى : فنبتّم نباتا ـ فيكون منصوبا بالمطاوع المقدر. (٢).
أى : والله ـ تعالى ـ هو الذي أوجد وأنشأ أباكم آدم من الأرض إنشاء وجعلكم فروعا عنه ، ثم يعيدكم إلى هذه الأرض بعد موتكم لتكون قبورا لكم ، ثم يخرجكم منها يوم البعث للحساب والجزاء.
وعبر ـ سبحانه ـ عن الإنشاء بالإنبات ، لأن هذا التعبير يشعر بأن الإنسان مخلوق محدث ، وأنه مثل النبات يحصد ثم يعود إلى الحياة مرة أخرى.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : «استعير الإنبات للإنشاء كما يقال : زرعك الله للخير. وكانت هذه الاستعارة أدل دليل على الحدوث لأنهم إذا كانوا نباتا كانوا محدثين لا محالة حدوث النبات» (٣).
ثم ختم نوح ـ عليهالسلام ـ إرشاداته لقومه ، بلفت أنظارهم إلى نعمة الأرض التي يعيشون عليها ، فقال : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً).
__________________
(١) راجع تفسير التحرير والتنوير للشيخ ابن عاشور ج ٢٩ ص ٢٠٤.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٤١٢.
(٣) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦١٨.