فالجملة الكريمة تقرر جانبا من فضل الله ـ تعالى ـ على عباده ، ومن رحمته بهم ..
والفاء في قوله ـ تعالى ـ : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) للإفصاح ، والمراد بالقراءة الصلاة ، وعبر عنها بالقراءة ، لأنها من أركانها .. أى : إذا كان الأمر كما وضحت لكم ، فصلوا ما تيسر لكم من الليل.
قال الآلوسي : قوله : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) أى : فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل ، وعبر عن الصلاة بالقراءة كما عبر عنها بسائر أركانها ، وقيل : الكلام على حقيقته ، من طلب قراءة القرآن بعينها وفيه بعد عن مقتضى السياق.
ومن ذهب إلى الأول قال : إن الله ـ تعالى ـ افترض قيام مقدار معين من الليل ، لقوله : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً ، نِصْفَهُ ...) إلخ. ثم نسخ بقيام مقدار ما منه ، في قوله : (فَتابَ عَلَيْكُمْ. فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ...) فالأمر في الموضعين للوجوب ، إلا أن الواجب أولا كان معينا من معينات. وثانيا كان بعضا مطلقا ، ثم نسخ وجوب القيام على الأمة مطلقا بالصلوات الخمس.
ومن قال بالثاني. ذهب إلى أن الله ـ تعالى ـ رخص لهم في ترك جميع القيام للصلاة ، وأمر بقراءة شيء من القرآن ليلا ، فكأنه قيل : فتاب عليكم ورخص لكم في الترك ، فاقرءوا ما تيسر من القرآن ، إن شق عليكم القيام .. (١).
وقال الإمام ابن كثير : وقوله : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) أى : من غير تحديد بوقت ، أى : لكن قوموا من الليل ما تيسر ، وعبر عن الصلاة بالقراءة ، كما قال في آية أخرى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) أى : بقراءتك (وَلا تُخافِتْ بِها).
وقد استدل الأحناف بهذه الآية على أنه لا يتعين قراءة الفاتحة في الصلاة ، بل لو قرأ بها أو بغيرها من القرآن ، ولو بآية. أجزأه واعتضدوا بحديث المسيء صلاته الذي في الصحيحين ، وفيه : «ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن».
وقد أجابهم الجمهور بحديث عبادة بن الصامت ، وهو في الصحيحين ـ أيضا ـ أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» وفي صحيح مسلم عن أبى هريرة ، أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج .. غير تمام» وفي صحيح ابن خزيمة عن أبى هريرة مرفوعا : «لا تجزئ صلاة من لم يقرأ بفاتحة الكتاب» (٢).
__________________
(١) تفسير الآلوسى ج ٢٩ ص ١١١.
(٢) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٣٨٤.