وقوله : (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) أذن له : استمع له .. والمعنى : أنها فعلت في انقيادها لله ـ تعالى ـ حين أراد انشقاقها ، فعل المطواع الذي إذا ورد عليه الأمر من جهة المطاع أنصت له وأذعن ، ولم يأب ولم يمتنع ، كقوله ـ تعالى ـ (أَتَيْنا طائِعِينَ).
«وحقت» هو من قولك : هو محقوق بكذا وحقيق به ، يعنى : وهي حقيقة بأن تنقاد ولا تمتنع .. (١).
وقال الجمل في حاشيته : وقوله (وَحُقَّتْ) الفاعل في الأصل هو الله ـ تعالى ـ أى : حقّ وأوجب الله عليها سمعه وطاعته .. فعلم من ذلك أن الفاعل محذوف ، وأن المفعول هو سمعها وطاعتها له ـ تعالى ـ (٢).
ثم وجه ـ سبحانه ـ بعد ذلك نداء للإنسان ، دعاه فيه إلى طاعته وإخلاص العبادة له ، فقال : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) والمراد بالإنسان هنا : جنسه. وأصل الكدح في كلام العرب : السعى في سبيل الحصول على الشيء بجد واجتهاد وعناء.
مأخوذ من كدح فلان جلده ، إذا خدشه ، ومنه قول الشاعر :
وما الدهر إلا تارتان فمنهما |
|
أموت ، وأخرى أبتغى العيش أكدح |
وقول الآخر :
ومضت بشاشة كل عيش صالح |
|
وبقيت أكدح للحياة وأنصب |
أى : وبقيت أسعى سعيا حثيثا للحياة ، وأتعب من أجل الحصول على مطالبي فيها.
والضمير في قوله : (فَمُلاقِيهِ) يعود إلى الله ـ تعالى ـ ، ويصح أن يعود للكدح ، بمعنى ملاق جزاء هذا الكدح.
والمعنى : يا أيها الإنسان إنك باذل في حياتك جهدا كبيرا من أجل مطالب نفسك.
وإنك بعد هذا الكدح والعناء ... مصيرك في النهاية إلى لقاء ربك ، حيث يحاسبك على عملك وكدحك .. فقدم في دنياك الكدح المشروع ، والعمل الصالح.
والسعى الحثيث في طاعته ـ تعالى ـ ، لكي تنال ثواب ربك ورضاه.
قال ابن كثير : وقوله : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً) أى : ساع إلى ربك سعيا ، وعامل عملا (فَمُلاقِيهِ) ثم إنك ستلقى ما عملت من خير أو شر.
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٧٢٥.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٥٠٨.