فهمه إلى بعض هذا فضلا عن كله. ثم كون هذه الحروف مشتملة على النصف من جميع الحروف التي تركبت لغة العرب منها ، وذلك النصف مشتمل على أنصاف تلك الأنواع من الحروف المتصفة بتلك الأوصاف هو أمر لا يتعلق به فائدة لجاهليّ ولا إسلاميّ ولا مقرّ ولا منكر ولا مسلم ولا معارض ، ولا يصح أن يكون مقصدا من مقاصد الربّ سبحانه ، الذي أنزل كتابه للإرشاد إلى شرائعه والهداية به. وهب أن هذه صناعة عجيبة ونكتة غريبة ، فليس ذلك مما يتصف بفصاحة ولا بلاغة حتى يكون مفيدا أنه كلام بليغ أو فصيح ، وذلك لأن هذه الحروف الواقعة في الفواتح ليست من جنس كلام العرب حتى يتصف بهذين الوصفين ، وغاية ما هناك أنها من جنس حروف كلامهم ولا مدخل لذلك فيما ذكر. وأيضا لو فرض أنها كلمات متركبة بتقدير شيء قبلها أو بعدها لم يصح وصفها بذلك ، لأنها تعمية غير مفهومة للسامع إلا بأن يأتي من يريد بيانها بمثل ما يأتي به من أراد بيان الألغاز والتعمية ، وليس ذلك من الفصاحة والبلاغة في ورد ولا صدر ، بل من عكسهما وضد رسمهما ، وإذا عرفت هذا فاعلم أن من تكلّم في بيان معاني هذه الحروف جازما بأن ذلك هو ما أراده الله عزوجل ، فقد غلط أقبح الغلط ، وركب في فهمه ودعواه أعظم الشطط ، فإنه إن كان تفسيره لها بما فسّرها به راجعا إلى لغة العرب وعلومها فهو كذب بحت ، فإن العرب لم يتكلموا بشيء من ذلك ، وإذا سمعه السامع منهم كان معدودا عنده من الرطانة ، ولا ينافي ذلك أنهم قد يقتصرون على أحرف أو حروف من الكلمة التي يريدون النطق بها ، فإنهم لم يفعلوا ذلك إلا بعد أن تقدّمه ما يدل عليه ويفيد معناه ، بحيث لا يلتبس على سامعه كمثل ما تقدّم ذكره. ومن هذا القبيل ما يقع منهم من الترخيم ، وأين هذه الفواتح الواقعة في أوائل السور من هذا؟ وإذا تقرر لك أنه لا يمكن استفادة ما ادّعوه من لغة العرب وعلومها لم يبق حينئذ إلا أحد أمرين : الأوّل التفسير بمحض الرأي الذي ورد النهي عنه والوعيد عليه ، وأهل العلم أحق الناس بتجنبه والصدّ عنه والتنكّب عن طريقه ، وهم أتقى لله سبحانه من أن يجعلوا كتاب الله سبحانه ملعبة لهم يتلاعبون به ويضعون حماقات أنظارهم وخزعبلات أفكارهم عليه. الثاني التفسير بتوقيف عن صاحب الشرع ، وهذا هو المهيع (١) الواضح والسبيل القويم ، بل الجادة التي ما سواها مردوم ، والطريقة العامرة التي ما عداها معدوم ، فمن وجد شيئا من هذا فغير ملوم أن يقول بملء فيه ويتكلم بما وصل إليه علمه ، ومن لم يبلغه شيء من ذلك فليقل لا أدري ، أو الله أعلم بمراده ، فقد ثبت النهي عن طلب فهم المتشابه ومحاولة الوقوف على علمه مع كونه ألفاظا عربية وتراكيب مفهومة ، وقد جعل الله تتبع ذلك صنيع الذين في قلوبهم زيغ ، فكيف بما نحن بصدده؟ فإنه ينبغي أن يقال فيه إنه متشابه المتشابه على فرض أن للفهم إليه سبيلا ، ولكلام العرب فيه مدخلا ، فكيف وهو خارج عن ذلك على كل تقدير. وانظر كيف فهم اليهود عند سماع الم فإنهم لما لم يجدوها على نمط لغة العرب فهموا أن الحروف المذكورة رمز إلى ما يصطلحون عليه من العدد الذي يجعلونه لها ، كما أخرج ابن إسحاق والبخاري في تاريخه ، وابن جرير بسند ضعيف ، عن ابن عباس ، عن جابر بن عبد الله قال : «مرّ أبو ياسر ابن أخطب في رجال من يهود برسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة : (الم ـ ذلِكَ الْكِتابُ لا
__________________
(١). المهيع : الطريق الواسع البيّن.