كذلك ذكر الإمام القرطبى فى تفسير قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) [الشورى : ١٣] فى بيان حكمة اقتصار الآية الكريمة على البدء بنوح بدون آدم ، نقلا عن القاضى ابن العربى ما نصه : ثبت فى الحديث الصحيح أن النبى صلىاللهعليهوسلم قال فى حديث الشفاعة المشهور الكبير : «ولكن ائتوا نوحا ، فإنه أول رسول بعثه الله تعالى إلى الأرض ، فيأتون نوحا ، فيقولون له : أنت أول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض» ، وهذا صحيح لا إشكال فيه ، كما أن آدم أول رسول نبى بغير إشكال ، إلا أن آدم لم يكن معه إلا بنوه ، ولم تفرض له الفرائض ، ولا شرعت له المحارم ، وإنما كان شرعه تنبيها على بعض الأمور ، واقتصارا على ضروريات المعاش ، وأخذا بوظائف الحياة والبقاء ، واستمر هذا إلى نوح ، فبعثه الله تعالى بتحريم الأمهات والبنات والأخوات ، ووظف عليه الواجبات ، وأوضح له الآداب والديانات ، ولم يزل ذلك يتأكد بالرسل ، ويتناصر بالأنبياء ، صلوات الله عليهم ، واحدا بعد واحد ، وشريعة إثر شريعة ، حتى ختمها الله تعالى بخير الملل ، ملتنا ، على لسان أكرم الرسل ، نبينا محمد صلىاللهعليهوسلم.
وكأن المعنى : أوصيناك يا محمد ونوحا دينا واحدا ، يعنى فى الأصول التى لا تختلف فيها الشرائع ، وهى التوحيد ، والصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج ، والتقرب إلى الله تعالى بصالح الأعمال ، والصدق ، والوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وتحريم الكفر ، والقتل ، والزنا ، والإذاية للخلق كيفما تصورت ، والاعتداء على الحيوان كيفما دار ، واقتحام الدناءات وما يعود بخرم المروءات ، فهذا كله مشروع دينا واحدا ، وملة متحدة لم تختلف على ألسنة الأنبياء ، وإن اختلفت أعذارهم ، وذلك قوله تعالى : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) ، أى اجعلوه دائما ، قائما ، مستمرا ، محفوظا ، مستقرا من غير خلاف فيه ولا اضطراب ، فمن الخلق من وفى بذلك ، ومنهم من نكث ، ومن ينكث فإنما ينكث على نفسه ، واختلفت الشرائع وراء هذه فى أحكامها حسبما أراد الله تعالى مما اقتضت المصلحة ، وأوجبت الحكمة وضعه فى الأزمنة على الأمم ، والله أعلم.
فهذا هو التوحيد بين الأديان والاختلاف بينها ، وقد تبين بوضوح أن ذلك لازم لكل دين ، وضرورى فى كل رسالة سبقت الإسلام وتقدمت عليه ، على خلاف ما يفهم من عبارة الكاتب التى نقلناها عنه سابقا فى قوله : فجاء الإسلام على خلاف جميع العقائد التى سبقته يؤاخى بين الأديان كلها ، فقوله : على خلاف جميع العقائد ، يقصد به جميع الأديان ، وهو كلام لا سند له ولا دليل ، بل الدليل يبطله ويأتى عليه من أساسه ، قال