(إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) بأن حاربوا وأبوا أن يقروا بالجزية ، فجادلوهم بالسيف إلى أن يسلموا ، أو يعطوا الجزية ، وقيل : إلا الذين آذوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقيل : إلا الذين أثبتوا الولد والشريك ، والاستثناء فى قوله : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) متصل ، وإنما فسر الظلم فى الآية بمحاربتهم المؤمنين حتى لا يقال : كيف قال تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) مع أن أهل الكتاب جميعا ظالمون ؛ لأنهم كافرون ، قال تعالى : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة : ٢٥٤].
فالآية الكريمة شروع فى بيان إرشاد أهل الكتاب ودعوتهم إلى الإسلام بعد بيان إرشاد أهل الشرك فى قوله تعالى قبل ذلك : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) [العنكبوت : ٤١] الآية ، فمجادلة أهل الكتاب بالحسنى معناه دعوتهم إلى الإيمان بمحمد صلىاللهعليهوسلم وما جاء به ؛ لأن هذا هو المتعين المفروض الذى يلزم كل مكلف من المسلمين فى حدود الاستطاعة والقدرة كما هو واضح ، وما أبدع قوله فى هذه الآية : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) بعد قوله سبحانه فيها : (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ).
قال الخطيب الشربينى عندها ما نصه : أى خاضعون منقادون أتم انقياد فيما يأمرنا به بعد الأصول من الفروع ، سواء كانت موافقة لفروعكم ، كالتوجه بالصلاة إلى بيت المقدس ، أو ناسخة كالتوجه إلى الكعبة ، ولا نتخذ الأحبار والرهبان أربابا من دون الله لنأخذ ما يشرعونه لنا مخالفا لكتابه وسنة نبيه صلىاللهعليهوسلم. انتهى هذا هو معنى الآية ، وهذا هو ما يفهم منها على مقتضى الموازين الصحيحة والضوابط الدقيقة ، هذا هو ما تعطيه الآية على وفق ما قاله أئمة الهدى والراسخون فى التحقيق والمعرفة.
قلنا فيما تقدم : إن الآية فى دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام ، والكاتب يقول : إن المجادلة للإشعار أن المسلم فى دينه أخو اليهودى والمسيحى فى دينهما. ولا ندرى من أين جاءت هذه الأخوة وهم يتجهون إلى بيت المقدس ، ونحن نتوجه إلى الكعبة ، وصلاتنا تخالف صلاتهم ، وصيامنا يخالف صيامهم ، إلى غير ذلك.
وقد نطق القرآن بكفرهم كما يصرح به قوله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) ، اللهم إلا إذا أمكن أن يقال فى المتضادات : إن بينها أخوة ، وفى المتباينات : إن فيها صلة ورابطة.