أخرى لم يتجه بها أحد من المسلمين الأولين ، والسبب فى هذا الانحراف هو ما منى به العلماء من التعصب المذهبى ، إذ حملهم هذا على الاكتفاء بما وصل إلى أيديهم من ترك السابقين ، وقالوا : إن السابقين كفونا مئونة البحث فى آى الذكر الحكيم استنباطا لحكم شرعى ، أو تفسيرا لآية ، وجعلوا بينهم وبين النظر فى الكتاب حجابا كثيفا من التقليد والتعصب للمجتهدين السابقين ، اعتزازا بفضلهم ، وتابعهم المسلمون فى فهمهم ، واتجهوا بالقرآن الكريم وجهة أخرى ، حتى إننا نرى المسلمين اليوم ، إلا من عصمه الله وقليل ما هم ، هجروا القرآن الكريم ككتاب هداية وإرشاد ، وشاعت بينهم فكرة تقديسه من جهات أخرى هى :
جهة التداوى به من أمراض الأبدان ، وجهة استمطار الرحمة بقراءته على أرواح الموتى ، وجهة تسول الفقراء به واستغلال عاطفة الإيمان عن طريقه ، هذه البدع الثلاث ، أو المنكرات الثلاثة ، كانت أثرا لهجر المسلمين كتاب الله من الجهة التى أنزل لأجلها ، وكانت فى الوقت نفسه عنوانا سيئا على إيمان المسلمين من حيث لا يشعرون بمكانة تلك المعجزة الخالدة ، التى جعلها الله سبيلا لإنقاذ البشرية من الأوهام والخرافات ، وكانت مع هذا وذاك عنوانا على الجهل بنظام الأسباب والمسببات ، الذى نظم الله عليه العالم ، وهدى الناس إلى السير فى سبيله : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه : ٥٠] ، يجعل الله القرآن سبيلا لإنقاذ البشرية من الأوهام والخرافات ، ويعكس نفر من المسلمين القضية ، فيجعلونه سبيلا من سبل الأوهام ، وعنوانا على الجهل بأسرار الله ونظام الله.
الدين والعقل لا يقران هذا الانحراف : وإن تعجب فعجب أن تكتب الآية القرآنية الحكيمة فى إناء ثم تمحى بالماء ، ثم يؤمر المريض بشربه ، أو تكتب قطع صغيرة من الورق ، ثم تلف كالبرشام ، ويؤمر المريض بابتلاعها ، أو تحرق تلك القطع ويبخر المريض بها على مرات ، أو توضع فى خرقة وتعلق حجابا فى مكان معين من جسم المريض ، وبهذا ونحوه اتخذ الدجالون القرآن الكريم وسيلة لكسب العيش من طريق يأباه الإيمان ، ويصدقه كثير من المسلمين.
وذلك فضلا عن أنه انحراف بالقرآن عما أنزل لأجله ، فإن فيه إفسادا للعقول الضعيفة ، وصرفا لأربابها عن طريق العلاج الصحيح ، وتغييرا لسنة الله فى الأسباب والمسببات ، واحتيالا على أكل أموال الناس بالباطل ، وهذا تصرف لا يقره دين ولا يرضى به عقل سليم ، فإذا تركنا هؤلاء الدجالين يعبثون فى القرى والمدن بالقرآن