هو الحال فى نزوله منجما ، فقد جعل ما اتخذوه وسيلة إلى القدح وسيلة إلى تبكيتهم وإلزامهم ، وهى غاية التبكيت والإلزام ، فإنهم طولبوا مرة بأن يأتوا بمثل هذا القرآن بقوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) [الإسراء : ٨٨].
ومرة بأن قيل لهم : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) [هود : ١٣] ، فالحجة فى إثبات نبوّته ، عليه الصلاة والسلام ، هى القرآن ، إلا أنهم لما ارتابوا فى حجته ، وطعنوا فيه باحتمال كونه مفترى ، أزال شبههم بهذه الآية التى بيّن بها إعجازه ، فإنهم إذا عجزوا عن الإتيان بما يوازى أقصر سورة منه ، ظهر كذبهم فى تجويز الاختلاق والافتراء ، وتبين كونه من عند الله تعالى ، كما يدعيه من نزل عليه ، وقد عرفهم الله تعالى بهذه الآية ما يتعرفون به إعجازه وكونه نازلا من عند الله تعالى كما يدعيه من نزل عليه ، وهو أن يمتحنوا أنفسهم ويجربوا طبائعهم هل يقدرون على إتيان ما يوازى أقصر سورة مما أتى به من لم يكتب ، ولم يقرأ ، ولم يخالط القراءة.
فهو تعالى لما بين بهذه الآية ما هو الحجة على نبوّته ، عليه الصلاة والسلام ، بعد ذكره الحجة على وحدانيته ، صارت الآيتان بمنزلة أن يقال : لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وأما الثالث : وهو ثبوت المعاد :
فإن الله تعالى ذكر الدليل عليه بقوله سبحانه : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) [البقرة : ٢٤] ، أى فاتقوا الفساد المستلزم له دخول النار ، فاتقاء النار كناية عن اتقاء الفساد المستلزم له.
وبيان ذلك وإيضاحه : أنه تعالى لما بيّن لهم ما يتعرفون به أمر الرسول صلىاللهعليهوسلم ، وما جاء به ، وميز لهم الحق من الباطل ، رتب عليه ما هو كالخلاصة والفذلكة له ، وهو أنكم إذا اجتهدتم فى معارضته وعجزتم جميعا عن الإتيان بما يساويه أو يدانيه ، ظهر أنه معجز ، والتصديق به واجب ، فآمنوا به واتقوا العذاب المعد لمن كذب ، وفى هذا إثبات للمعاد من حيث إنهم لن تكون منهم معارضة أبدا ، وعليه فالواجب عقلا ومنطقا أن يصدقوا بالقرآن وبكل ما جاء فيه مما يعم الوعد والوعيد فى دار البقاء.
ولا بدّ لنا من أن نبين ، ونحن فى هذا المقام ، كيف أفاد لفظ (النَّاسُ) فى الآية السابقة العموم ، فنقول : استدل العلماء على أن الجموع المحلاة بالألف واللام نحو : الرجال ، والنساء ، وأسماء الجموع نحو : القوم ، والرهط ، والناس تفيد العموم والاستغراق بثلاثة أوجه :