نصوصا خفية يحتاج فى معرفتها إلى الاستدلال ، ثم إنهم كانوا يحتالون فيها ويشوشون أوجه الدلالة على المتأملين فيها بإلقاء الشبهات ، فهذا هو المراد بقوله : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ) ، وأما قوله : (وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) ، فمعناه إخفاءه عمن لم يسمعه ، كما أن قوله : (وَلا تَلْبِسُوا) معناه التشويش على من سمعه ، كما هو واضح مما تقدم ، وهذا هو السر فى الجمع بينهما ، فلكل منها اتجاه يغاير اتجاه الآخر ويخالفه.
ولا بدّ لنا من الكلام على إعراب هذه الجملة : (وَتَكْتُمُوا) ، وبيان هل هى مجزومة عطفا على النهى السابق فى قوله : (وَلا تَلْبِسُوا) ، أو منصوبة فى جواب هذا النهى بأن مضمرة وجوبا بعد واو المعية ، إذ المعنى يختلف على كل منهما؟ فنقول : قال فريق : إنها مجزومة داخلة تحت حكم النهى ، كأنه قيل : لا تكتموا الحق ، فيكون النهى متوجها إلى كل واحد من الفعلين على حدة ، أى لا تفعلوا هذا ولا هذا ، إذ كل واحد منهما مستقل بالقبح ، ووجوب الانتهاء عنه. وقال فريق : إنها منصوبة بإضمار أن فى جواب النهى بعد الواو التى تقتضى المعية ، فإن النهى حينئذ هو الجمع بين الفعلين ، كأنه قيل : لا تجمعوا بين لبس الحق والباطل وكتمانه ، كما فى قول الشاعر :
لا تنه عن خلق وتأتى مثله |
|
عار عليك إذا فعلت عظيم |
ومعلوم أن «أن» مع ما فى حيزها ، تكون فى تأويل المصدر ، فلا بد من تأويل الفعل الذى قبلها بالمصدر أيضا ؛ ليكون من قبيل عطف الاسم على مثله ، والتقدير : لا يكن منكم لبس الحق بالباطل مع كتمانه ، وعلى هذا لا يعلم النهى على كل واحد من الفعلين إلا بدليل خارجى.
لا يقال : يلزم عليه جواز تلبيسهم بدون الكتمان وعكسه ، كما فى : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ؛ لأنا نمنع ذلك ، إذ النهى عن الجمع لا يدل على جواز البعض ولا على عدمه ، وإنما يدل عليه دليل آخر ، أما فى مسألة السمك فللطب ، وأما فى الآية فلقبح كل منها ، وفائدة الجمع المبالغة فى النعى عليهم ، وإظهار القبح فى أفعالهم من كونهم جامعين بين فعلين ، إن انفرد كل منهما عن صاحبه كان قبيحا ، يعنى فالطب فى مسألة السمك هو الذى أجاز أحد الفعلين منفردا عن الآخر ، ولم يجوز ذلك النهى عن الجمع فى قولهم : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، وقبح كل واحد من الفعلين فى الآية منع جواز أحدهما ، ولم يمنعه النهى عن الجمع فيها كذلك. وقوله تعالى : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)