ثالثا : المرجئة
يوشك إجماع المؤرخين والمهتمين بعلم الكلام أن ينعقد على أن ظهور المرجئة كفرقة لها قسماتها الفكرية المميزة وآراؤها العقدية المغايرة للمألوف آنذاك ـ قد ارتبط ارتباطا مباشرا بمغالاة الخوارج في تكفير مخالفيهم ، والنظر إلى مرتكب الكبيرة على أنه كافر ، تخرجه ذنوبه من دائرة الإيمان والإسلام جميعا ، واعتبار العمل جزءا من إيمان صاحبه ، وأن الفصل بينهما فصل بين مرتبطين ضرورة (١).
وعلى العكس من معتقد الخوارج ، ذهبت المرجئة إلى أن الإيمان عقد بالقلب ، وإن أعلن الكفر بلسانه بلا تقية وعبد الأوثان أو لزم اليهودية أو النصرانية في دار الإسلام وعبد الصليب وأعلن التثليث ومات على ذلك ، فهو مؤمن كامل الإيمان عند الله عزوجل وولي لله عزوجل ، من أهل الجنة (٢).
ولما كان الإيمان عند المرجئة غير مرتبط بعمل الجوارح قال مقاتل بن سليمان ـ وكان من كبار المرجئة ـ : لا يضر مع الإيمان سيئة جلت أو قلت أصلا ، ولا ينفع مع الشرك حسنة أصلا(٣).
وذهب عبد القاهر البغدادي إلى أن سبب تسميتهم بالمرجئة من الإرجاء بمعنى التأخير ؛ لأنهم أخروا العمل عن الإيمان (٤) ، بيد أن الراجح لدينا فيما يتصل بأمر التسمية ، أنهم سموا بذلك ؛ لأنهم يرجئون الحكم على صاحب الكبيرة إلى يوم الدين ، ويفوضون أمره إلى ربه (٥).
ونحسب أن هذا الرأي يستقيم مع الملابسات التاريخية التي واكبت نشأة المرجئة في المجتمع الإسلامي ، فهم قد ظهروا في عصر غلبت عليه نزعة تكفير الخصوم ، أو على أقل تقدير نسبتهم إلى الفسوق والعصيان والمخالفة عن أوامر الله ، أما الخوارج فيكفرون عثمان وعليّا والقائلين بالتحكيم ، وثمة من الشيعة من يكفر أبا بكر وعمر وعثمان ، والفريقان جميعا ـ الشيعة والخوارج ـ يكفرون الأمويين ويعدونهم مغتصبين للخلافة ،
__________________
(١) ضياء الدين الريس ، النظريات السياسية ، (ص ٨٥).
(٢) انظر في ذلك : محمد ضياء الدين الريس ، النظريات السياسية الإسلامية (ص ٨٥) ، أحمد أمين ، فجر الإسلام (ص ٤٤١ ، ٤٤٢).
(٣) ابن حزم ، الفصل (٥ / ٢٠٤).
(٤) السابق (٥ / ٢٠٥).
(٥) الفرق بين الفرق (ص ٢١١).