ثانيا : الأشاعرة
اشتدت خصومة الفقهاء والمحدثين للمعتزلة ، واحتدم النزاع بين الفريقين في النظر إلى مسائل الاعتقاد ، ومرد ذلك إلى تباين المنهج الذي يصطنعه كل منهما ، فالفقهاء والمحدثون ينزعون منزعا سلفيّا يقدم النقل على العقل ، والمعتزلة يعتدون بالعقل اعتدادا جعلهم يؤولون ما يتعارض مع أدلته من آيات القرآن ، أو ينكرون ما يناقضها من أحاديث النبي صلىاللهعليهوسلم ، فخالفوا جمهور المسلمين في أمور كثيرة ؛ كالقول بخلق القرآن وإنكار الشفاعة ورؤية الله يوم القيامة وغير ذلك مما يصدم المشاعر الدينية للمسلمين.
ولم تخل الساحة الفكرية للمعتزلة فحسب ، بل كان هناك الحشوية من الحنابلة ، وكانوا على الطرف المقابل للمعتزلة حيث أجازوا على الله الملامسة والمصافحة والرؤية ، كما أثبتوا له ما وصف به نفسه في القرآن الكريم ـ كأن له عينا أو يدا أو وجها ـ إثباتا ماديّا يوهم التجسيم والمشابهة للحوادث ، واعتمدوا في ذلك على أحاديث فهموها فهما حرفيّا وقاسوها على ما يتعارف من صفات الأجسام ؛ كقوله صلىاللهعليهوسلم : «خلق آدم على صورة الرحمن» (١) ، وقوله : «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن» (٢) ، و «وضع يده على كتفي حتى وجدت برد أنامله» (٣).
على هذا النحو مست حاجة المسلمين إلى منهج جديد تتحقق فيه الوسطية التي دعا إليها الإسلام ، فيسلك بالمسلمين السبيل الذي سلكه الصحابة قبلهم في شئون الاعتقاد ، منهج ينزل العقل مكانه الصحيح فيعرف له حدوده وطاقته ، ولا يسرف في الاعتداد به ،
__________________
(١) أخرجه البخاري (١٢ / ٢٦٢) كتاب الاستئذان باب بدء السلام (٦٢٢٧) ، ومسلم (٤ / ٢١٨٣) كتاب الجنة وصفة نعيمها باب يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير (٢٨ / ٢٨٤١) ، وأحمد (٢ / ٣١٥) عن أبي هريرة بلفظ : «خلق الله آدم على صورته ... الحديث».
(٢) أخرجه مسلم (٤ / ٢٠٤٥) كتاب القدر باب تصريف الله تعالى القلوب كيف يشاء (١٧ / ٢٦٥٤) وأحمد (٢ / ١٦٨) والآجري (ص / ٣١٦) وابن أبي عاصم في السنة برقم (٢٢٢) عن عبد الله بن عمرو بلفظ «إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء ...» الحديث.
وأخرجه أحمد (٦ / ٢٩٤ ، ٣٠١ ، ٣١٥) وعبد بن حميد (١٥٣٤) والترمذي (٥ / ٤٩٦) كتاب الدعوات (٣٥٢٢) وابن أبي عاصم في السنة (٢٢٣) عن أم سلمة بلفظ «... يا أم سلمة إنه ليس لآدمي إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ ...»
(٣) أخرجه أحمد (٥ / ٢٤٣) ، والترمذي (٥ / ٢٨٥ ـ ٢٨٦) كتاب التفسير باب (ومن سورة ص) (٣٢٣٥) ، وابن خزيمة في التوحيد (ص / ٢١٨) ، والطبراني في الكبير (٢٠ / ٢١٦) عن معاذ بن جبل مطولا.