أحمد بن حنبل (١).
ونستطيع أن نقرر أن هذا المنهج الذي سلكه أبو الحسن الأشعري امتاز بالوسطية التي دعا إليها الإسلام وأكدها القرآن الكريم في غير آية ، حين حث على إعمال النظر والتفكر في الكون وتدبر إحكام صنعته ، فلم يهمل العقل ولا حرم استخدامه ، ولقد ألمحنا فيما سبق إلى أن القرآن نفسه اشتمل على أدلة عقلية وبراهين قوية ألزم بها خصومه ، بالإضافة إلى ما احتواه من أدلة سمعية.
«ولا ريب في أن الأشعري استطاع بذلك أن يمهد للاعتراف بعلم الكلام وأن يجعله من علوم الدين ، وأن يحسن للعلماء الخوض فيه ، واستطاع أيضا بمنهجه أن يرسخ قواعد المذهب وأن يجذب إليه الكثيرين ، وأن يحد من انتشار مذهب المعتزلة ، وأن يضيق الدائرة الحشوية ، وما ذلك إلا لوسطيته التي التزمها وحرص على تحقيقها في آرائه ، والوسط غالبا ما يكون أقرب إلى الصحة والاعتدال ، فكلا طرفي الأمور ذميم ، وإذا كان الناس قد تقبلوا مذهب الشافعي في الفروع لتوسطه بين أهل الحديث وأهل الرأي ، فإنهم تقبلوا مذهب الأشعري في الأصول ؛ لتوسطه بين الحنابلة والمعتزلة ، أو بين أهل النقل وأهل العقل» (٢).
وثمة إشكال في «منهج الأشعري الكلامي» يثيره كتابه «اللمع» الذي اقترب فيه ـ في رأي عدد من المهتمين بعلم الكلام بصفة عامة وبفكر الأشعري بصفة خاصة ـ من المعتزلة من حيث الاعتداد الكبير بالأدلة العقلية ومن حيث تأويل النصوص الشرعية ، الأمر الذي حمل بعض الدارسين على القول بأن الأشعري قد مر في آرائه الكلامية بمرحلتين متعاقبتين مختلفتين أشد الاختلاف :
المرحلة الأولى : ويقترب فيها من العقيدة السلفية اقترابا شديدا ، ويمثل هذه المرحلة خير تمثيل كتابه : «الإبانة عن أصول الديانة».
المرحلة الثانية : ويقترب فيها من المذهب الاعتزالي ، ويمثلها كتابه «اللمع».
إذ الناظر في كتاب اللمع يجده خاليا من الإشادة بالإمام أحمد ومن الانتساب إليه خلافا لما ذكره في الإبانة ؛ وكذلك فإن كتاب اللمع خلا من بعض المسائل التي أتى بها
__________________
(١) مقدمة الإبانة ص (٣).
(٢) د / عبد المقصود عبد الغني (ص ١١٧).