وأما الثاني فلأن الرسول صلىاللهعليهوسلم كانت مهمته التوضيح والبيان (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ...) [النحل : ٤٤] الآية ، فما جاء عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم من شرح أو بيان بسند صحيح ثابت فإنه مما لا شك فيه أنه حق يجب اعتماده» (١).
المرحلة الثانية : التفسير في عهد الصحابة رضوان الله عليهم :
جاء عهد الصحابة ، وما من شك في أنهم كانوا يفهمون القرآن جملة ، أي : بالنسبة لظاهره وأحكامه ، أما فهمه تفصيلا ، ومعرفة دقائق باطنه ، بحيث لا يغيب عنهم شاردة ولا واردة ، فهذا غير ميسور لهم بمجرد معرفتهم للغة القرآن ، بل لا بد لهم من البحث والنظر ؛ وذلك لأن القرآن ـ كما سبقت الإشارة ـ فيه المجمل ، والمشكل ، والمتشابه ، وغير ذلك مما لا بد في معرفته من أمور أخرى يرجع إليها (٢).
ولذلك فإن قليلا من الصحابة من استشرف لمعرفة تفصيلات القرآن ودقائقه من رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وأقل منهم من رزق الفهم الصحيح بعد البحث والنظر ، وليس هذا التفاوت بقادح في أذهان الصحابة وصحة فهمهم للقرآن الكريم عامة ؛ إذ إنه راجع إلى اللغة نفسها ، وهي من أوسع الألسنة مذهبا وأكثرها ألفاظا ، ولا يحيط بها غير النبي المعصوم ، ولا بأس بغروب ألفاظها على بعض الصحابة ما دام ذلك لا يغرب على عامتهم (٣).
وبطبيعة الحال لم يكن الصحابة في درجة واحدة في فهم اللغة وإدراك أسرارها ، وليس بمقدور قوم أن يفهموا كل ما يكتب بلغتهم من العلوم على حد سواء ، ومن هنا لم يكن الصحابة في درجة واحدة لفهم معاني القرآن ، بل تفاوتت مراتبهم ، تبعا لتفاوتهم في فهم اللغة وإدراك أسرارها ، وهذا يرجع إلى تفاوتهم في القوة العقلية ، وما أحاط بالقرآن من ظروف وملابسات ، وأكثر من هذا أنهم كانوا لا يتساوون في معرفة المعاني التي وضعت لها المفردات ، فمن مفردات القرآن ما خفي معناه على بعض الصحابة ، ولا ضير في هذا ، فإن اللغة لا يحيط بها إلا معصوم ، ولم يدع أحد أن كل فرد من أمة يعرف جميع ألفاظ لغتها (٤).
__________________
(١) محمد علي الصابوني : التبيان في علوم القرآن (الطبعة الثانية ١٤٠٠ ه ـ ١٩٨٠ م) (ص ٦٥).
(٢) ينظر : د. الذهبي : التفسير والمفسرون (١ / ٣٦).
(٣) ينظر : الإمام الشافعي : الرسالة ، تحقيق أحمد شاكر (دار التراث ١٩٧٩ م) (١ / ٤٢) ، والزركشي : البرهان في علوم القرآن ، تحقيق : أبي الفضل إبراهيم (طبعة مكتبة الحلبي ١٩٥٧ م) (١ / ٢٨٤).
(٤) ينظر : د. الذهبي : التفسير والمفسرون (١ / ٣٦ ، ٣٧) ، ود. محمد إبراهيم شريف : بحوث في تفسير القرآن الكريم (الطبعة الثانية ١٤١٠ ه ـ ١٩٨٩ م) (ص ٤٨).