الفصل الأول
انتماء الماتريدي التفسيري
ظهر لنا فيما سبق أن هناك مدارس كثيرة في تفسير القرآن الكريم ، فهناك : مدرسة التفسير بالمأثور ، ومدرسة التفسير بالرأي ، ويقف بين هاتين المدرستين بعض المفسرين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، فيتخذون من النقل والعقل طريقا للتفسير.
والنقل ـ كما سبقت الإشارة ـ : هو تفسير القرآن بالقرآن أو السنة أو المأثور عن الصحابة والتابعين ، وأما العقل ـ كما سبق أيضا ـ : فيعمل المفسر عقله في الآيات ، لكن هذا الإعمال مشروط بشروط تتلخص في : عدم عدول المفسر عن حقيقة اللفظ إلى مجازه إلا إذا قامت القرائن الواضحة القاطعة التي تمنع من حقيقة اللفظ وتحمل على مجازه ، ومخالفة هذه القاعدة الأساسية اليسيرة قد أدى ـ عند بعض المفسرين ـ إلى كثير من الخطأ في تفسير بعض الآيات القرآنية المتعرضة للأنفس والآفاق (١).
ومن أهم الأسس التي يقوم عليها استخلاص المفسر لمضمونات اللفظ القرآني بطريق العقل ، وتكسب عمله سنده ومشروعيته ، هي مراعاة اللفظ القرآني في خطابه حال العرب ومشاهداتهم ومعارفهم ، ونزوله في التعبير على مستوى ما يعرفون ؛ ضمانا لهدايتهم ، ثم احتواؤه مع ذلك الحقيقة الأبدية التي يتجدد بها إيمان الناس كلما تكشفت لهم عصرا بعد عصر (٢) ، وهو أمر لا يعرف ولا يوجد في غير القرآن الكريم يمنحه الجدة الدائمة والثراء الذي لا ينفد ، ويعطي المتأملين فيه ، والباحثين في أسراره مشروعية مستمرة ، وضمانا وسندا دائمين ، وتأتي أساليب القرآن الكريم فوق ذلك مستجمعة درجات الفهم ، وفيها الغاية ـ كل الغاية ـ لكل عقل صحيح ، يقرؤها العالم فيستشف من خلالها علل الأشياء ، ويقرؤها الحكيم فيلتمس منها أسرار الوجود ، ويقرؤها غيرهما من الناس فتنقاد لها قلوبهم وعقولهم ، وترى الآي القرآني في علوه يداور المعاني ، ويخاطب الأرواح ، ويتألف الناس بهذه الخصوصية فيه حتى ينتهي بهم مما يفهمون إلى ما ينبغي أن يفهموا ، وحتى يقف بهم على نص اليقين ومقطع الحق (٣).
والماتريدي من هؤلاء العلماء الذين اشتهر عنهم أنه تابع لمدرسة أبي حنيفة ، ومدرسة
__________________
(١) ينظر بحوث في تفسير القرآن الكريم للدكتور محمد إبراهيم شريف (ص ١٠٤ ، ١٠٥).
(٢) الأستاد محمد رشيد رضا : تفسير القرآن الحكيم (طبع المنار ، ١٣٤٦ ه) (١ / ٤٠٢).
(٣) الرافعي : إعجاز القرآن والبلاغة النبوية (طبع الاستقامة ، القاهرة ١٩٥٢ م) ص (٢٠٦ ، ٢٠٧).