النار بنوره فى ظلمة الليل.
وكذلك السالك فى ظلمة الليل ، فلما ذهب نوره ـ أو سكن لمعان البرق ـ رجع إلى ما فيه من الظلمة.
والأصل فى هذا الباب : أن الله تعالى خلق هذه الدار لمحنة أهلها ، وجعل لهم دارا يجزيهم فيها ، مما لو لا هى لكان يكون خلق هذه الدار بما فيها عبثا ؛ إذ يكون خلق الخلق للفناء بلا عواقب لهم ، وذلك عبث فى العقول ؛ لأن كل شارع ـ فيما لا عاقبة له ـ عابث ، وفيما لا يريد معنى يكون فى العقل هازل ؛ ولذلك قال : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون : ١١٥].
فإذا كان كذلك صارت هذه الدار دليل الأخرى ؛ فعلى ذلك ضرب للأخرى مثلا بالمعروف من هذه ؛ إذ بهذه عرفت تلك ؛ ولهذا خلق الله الممتحنين بحيث يألمون ويتلذذون ؛ ليعرفوا قدر الآلام التى بها أوعدوا ، واللذات التى فيها رغبوا.
فعلى ذلك ضرب الله مثل من عمى عن الآخرة ، وصم عن سماع ما يرغب فيها ، أو عمى عن أمر الله ونهيه ، أو ألحق بالأعمى ، والأصم ، والميت ونحو ذلك ؛ لذهاب منافع البصر والسمع والحياة ؛ إذ هى مخلوقة ليعرف بها ما غاب عنها بالتأمل والتدبر.
فإذا غفل عن ذلك سمى بالذى ذكرنا. وبينا أنه لو لا الآخرة ودار الجزاء ، لم يكن لخلق شىء من ذلك حكمة نعقلها نحن.
فعلى ذلك ضرب المثل لذهاب نور القلب ـ الذى به يبصر العواقب وينتفع بها ـ بذهاب نور البصر ، فى زوال منافع الدنيا مما يتصل بنوره ، وكذلك أمر السمع وغيره.
فكان على ذلك أمكن إخراج المثلين جميعا على الكفرة والمنافقين.
أما المنافق فإذا ذهب نور حقيقته عنه ـ وهو نور البصر ـ لم ينتفع بنور النار على قيام النار بنورها لكل ذى بصر ، وكذلك سائر منافع النار ؛ فمثله إذا ذهب عنه نور بصر القلب
__________________
ـ ثقة دينا فاضلا وله تصانيف منها : غريب القرآن ، غريب الحديث ، كتاب المعارف ، كتاب مشكل القرآن ، كتاب مشكل الحديث ، كتاب أدب الكاتب ، كتاب عيون الأخبار ، كتاب طبقات الشعراء ، كتاب إصلاح الغلط ، كتاب الفرس ، كتاب الهجو ، كتاب المسائل ، كتاب أعلام النبوة ، كتاب الميسر ، كتاب الإبل ، كتاب الوحش ، كتاب الرؤيا ، كتاب الفقه ، كتاب معانى الشعر ، كتاب جامع النحو ، كتاب الصيام ، كتاب أدب القاضى ، كتاب الرد على من يقول بخلق القرآن. مات فجاءة ، صاح صيحة سمعت من بعد ، ثم أغمى عليه ، وكان أكل هريسة فأصاب حرارة ، فبقى إلى الظهر ، ثم اضطرب ساعة ، ثم هدأ ، فما زال يتشهد إلى السحر ، ومات وذلك فى شهر رجب ، سنة ست وسبعين ومائتين. ينظر : سير أعلام النبلاء (١٣ / ٢٩٦ ، ٢٩٧) ، (١٣ / ٣٠٠).