وكذلك ما عوتب محمد صلىاللهعليهوسلم فيما خطر بباله تقريب أجلة الكفرة ؛ إشفاقا عليهم ، وحرصا على إسلامهم ومن يتبعهم على ذلك مما لعل من دونه لا يعدل شىء من خيراته بالذى عوتب به ، وبالله التوفيق.
والثالث : أنه لما عوتب بالذى يجوز ابتداء المحنة به ، ولمثله خلقه حيث قال لملائكته : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) لكنه بكرمه ، وبالذى عوّد خلقه من تقديم إحسانه وإنعامه فى الابتلاء على الشدائد والشرور ، وإن كان له التقديم بالثانى ، وذلك فى جملة قوله : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) [الأعراف : ١٦٨] ، وقوله : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء : ٣٥] ، وبالله التوفيق.
وعلى ما فى ذلك من مبالغة غيره ، والزجر عن المعاصى ، وتعظيم خطره فى القلوب ؛ إذ جوزى أبو البشر وأول الرسل منهم ـ على ما فضله بما امتحن ملائكته بالتعلم منه ، والسجود ـ بذلك القدر من الزلة ؛ ليعلم الخلق أنه ليس فى أمره هوادة ، ولا فى حكمه محاباة ؛ فيكونون أبدا على حذر من عقوبته ، والفزع إليه بالعصمة عما يوجب مقته ، وألّا يكلهم إلى أنفسهم ؛ إذ علموا بابتلاء من الذى ذكرت محله فى قلوبهم بذلك القدر من الزلة ، ولا قوة إلا بالله.
والثانى : أن يكون حفظ النهى عنه لكنه خطر بباله النهى عن وجه لا يلحقه فيه وصف العصيان ، أو نسى قوله : (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) ، وقد ذكرنا النهى فى وقت الفعل ، ولكن يسمى الوصف بالفعل من الظلم والنهى ؛ لعله سبق إلى وهمه غير جهة التحريم ، إذ يكون النهى على أوجه :
أحدها : للحرمة.
والثانى : نهى لما فيه من الداء وعليه فى أكله ضرر ، وهذا معروف فى الشاهد بما عليه الطباع ، نهى قوم عن أشياء محللة هى لهم ما يؤذى ويضر ، فيحتمل أن يسبق إلى وهمه ذلك ، لما وعد له فى ذلك من عظيم النفع.
يحتمل ما خوف به ليصل إلى ما وعد على ما سبق وجّه النهى إلى ما وجه من حيث الضرر والمشقة ، ونسى قوله : (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) أو ذكرا وعرفا أن الظلم قد يقع على الضّرر ؛ كقوله : (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) [الكهف : ٣٣] أى : لم ينقص منه ، والنقصان فى النفس ضرر.
وعلى ذلك فسر عامة أهل التفسير الظلم فى القرآن أنه الضرر. واسم الضرر يأخذ ضرر الداء ، وضرر المأثم وإن كانت حقيقته وضع الشىء فى غير موضعه ، ولا قوة إلا بالله.