__________________
ـ الفعل من المخلوق يكون بفعل آخر قاسوا الغائب عليه ورتبوا ذلك الإنكار ولو رجعوا إلى قول الأكابر من رؤسائهم لما تعلقوا بهذه الشبهة فقد نسب إلى أكابر الماديين أنهم قالوا :
إن قياس الغائب على الشاهد قياس خداع لأنه كثيرا ما يخدع الإنسان ويوقعه فى الغلط فلا يصح التعويل عليه.
فصح أن فعل البارى تعالى غير فعل خلقه وأن تركه للفعل ليس فعلا فبطل ما قالوا.
الشبهة الثانية :
قالوا إن الفعل لا يمكن أن يتصور موجودا ليس من جنس المخلوقات فلا يكون جسما ولا مادة جسم ولا صورة جسم ولا آخذا قدرا من الفراغ وحيث لا يمكن تصور موجود بهذه الصفة فلا يمكن التصديق بوجوده لأن التصديق بالوجود فرع التصور.
والجواب عن هذه الشبهة :
قد اتفقتم معنا على أن تكون العالم سواء كان علويّا أو سفليّا على هذه الحالة التى نشاهدها حدث بعد أن لم يكن ولا إخالكم تخالفوننا فى أن ذلك العالم بلغ من الإتقان والإحكام والصنع الغريب ما حارت أولو الألباب فى اكتناهه وعجزت المراصد عن إحصائه ووقف علماء الفلك حيارى أمام بدائعه.
ولا شك أن العقل يجزم أن إتقان الأثر يدل على عظمة المؤثر والمبدع ألا ترى أنهم يستدلون بما يشاهد من أعمال النفوس والآثار العظيمة الباقية من زمن الأمم الغابرة على رقى تلك الأمم وتقدمها فى العلوم والصنائع.
وإلى جانب هذا إذا نظرنا إلى منزل الإنسان من حيث الإدراك نجد أنا لو قارنا بين ما يجهله وما يعلمه وسلكنا طريق الإنصاف لكانت نسبة المعلوم إلى المجهول كنقطة ماء من بحر أو ذرة من رمال بل لو نظرنا إلى الأشياء التى دخلت تحت دائرة معلوماته ، نجده بعد إعمال فكره وكثرة بحثه يجهل كثيرا من مباحثها.
وإذا نظرنا إلى أصحاب النظريات الفلسفية نجدهم يبطلون اليوم ما أثبتوه بالأمس ولا يستقرون على رأى ونجد الطائفة المتأخرة تفند نظريات الطائفة المتقدمة وهكذا.
ولننظر إلى حاسة السمع والبصر والشم والذوق فإنا نعتقد أن كل حاسة تدرك ما هو من خواصها ولكن كيفية الإدراك لا نعلمها علما يقينيا.
كل هذا يدلنا دلالة واضحة لا شك فيها ولا مرية على جهل الإنسان بحقائق كثيرة (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٨٥] فهل بعد إدراك عظم هذه المخلوقات الدالة على عظمة المبدع وثبوت جهل الإنسان بأكثر الأشياء تقولون إن عقولنا لا يمكن أن تتصور موجودا ليس جسما وتجعلوا عدم تصور العقل دليلا على عدم الوجود فى حين أنكم تعترفون أن هناك حقائق كثيرة نجهلها ولا تتصورها عقولنا ومع ذلك لا يمكنكم أن تقولوا إن عدم التصور دليل على عدم الوجود ويظهر أيضا أن الذى سهل عليهم هذا هو قياسهم الغائب على الشاهد ؛ فإنهم لما رأوا فى الشاهد أن الموجود لا بد أن يأخذ قدرا من الفراغ ولا بد أن يكون جسما أو مادة جسم أو صورة جسم قاسوا ذلك الغائب عليه وهو كما علمت سابقا قياس فاسد لا يعول عليه فثبت أن العالم محدث أحدثه الفاعل المختار جل وعلا.
الشبهة الثالثة :
قالوا الإيجاد جود وإحسان فلو لم يكن الله تعالى موجدا فى الأزل لكان تاركا للجود والإحسان مدة غير متناهية وذلك غير جائز ـ وربما عبروا عنه بعبارة أخرى فقالوا علة وجود العالم جود البارى ـ