قال : «لما وجد ـ أي الشافعي ـ الخلاف والنزاع مستمرا بين فقهاء الحجاز وفقهاء العراق ، أو بين أهل الحديث وأهل الرأي ، ووجد أن أهل الرأي على جانب من قوة البحث والنظر ، وأنهم أصحاب حجاج ولسن ، وأهل جدال وشغب ، وأنهم قد أسرفوا في الطعن على أهل الحديث وأئمتهم ، والحط من قدرهم وقيمتهم ، والرد على رأيهم ومذهبهم ، ووجد كذلك أن جمهرة المحدثين ، وبخاصة من كان موجودا في العراق منهم على شيء غير يسير من الخمول والكسل ، وضعف البحث والنظر ، وفساد الاستدلال والجدل ، وأنهم غير قادرين ـ القدرة التامة ـ على الانتصار لمذاهبهم والدفاع عن آرائهم ، والرد على خصومهم ، والصمود في وجوههم ؛ بسبب عدم الإدراك الصحيح لمباحث أصول الفقه ، وسوء التمييز بين الناسخ والمنسوخ ، والعام والخاص ، والمطلق والمقيد ، والمجمل والمبين ، وما إلى ذلك من المباحث.
لما وجد الأمر كذلك وأدرك حقيقة ما هنالك .. وضع مؤلفا جامعا في أصول الفقه ، يعين على فهم حقائقه ، وإدراك دقائقه ، ويكوّن القدرة على الاستدلال بأدلة الشرع ، وبيان كيفية إثباتها» (١).
وقد تتابع العلماء بعد الشافعي في تدوين مسائل هذا العلم ، من هؤلاء الإمام أحمد بن حنبل الذي ألف كتاب «الناسخ والمنسوخ».
٦ ـ تدوين علم النحو واللغة :
كان لاتساع الفتوحات الإسلامية ، ودخول الكثير من العجم في الإسلام ، واختلاطهم بالعرب ـ الأثر البالغ على الملكة اللسانية العربية ، فبدأ اللحن يتسرب إلى اللسان العربي ، فخاف العلماء أن يتعرض القرآن الكريم للتحريف أو ينغلق فهمه على الناس ، ومن ثم بادروا إلى وضع القواعد الضابطة للسان العربي من الانحراف وهو ما اصطلح على تسميته ب «علم النحو».
وقيل : إن أبا الأسود الدؤلي هو أول من اشتغل بعلم النحو.
وقيل : إنه تعلم أصوله عن الإمام علي (٢) ، وأن سبب التفكير في وضعه هو تسرب اللحن إلى القرآن الكريم ، ومن ثم ، وضع علم النحو.
وكانت مدرسة البصرة هي أولى المدارس النحوية نشأة وأسبقها ظهورا ، تلتها مدرسة
__________________
(١) ينظر : مقدمة ابن خلدون ص (٣٩٧) وما بعدها.
(٢) ينظر : مقدمة ابن خلدون ص (٥٠٢) ، والفهرست لابن النديم (ص ٦٠ ، ٦١).