استعمل العفو أو الصفح بما خصهم بأن جعلهم (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ١١٠] ، وأخبر أنه لم يجعل عليهم (فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج : ٧٨] ، ولا ألزمهم العبادات الشاقة فضلا منه عليهم وتخصيصا لهم ؛ إذ جعلهم (شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [الحج : ٧٨] ، فقال عزوجل : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ). لكن «كما» يحتمل وجهين :
يحتمل : العذر الذى كتب عليهم.
ويحتمل : الفرضية (١) فى الجملة لا عين ما فرض عليهم من حيث الإشارة إلى ذلك ؛ ولذلك اختلف فى (الكاف) فى قوله : (كما) ـ أنها زائدة ، أو حقيقية.
ثم اختلف فيما يأتيه ذلك الصيام : فمن الصحابة ، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، من جعله صوم عاشوراء (٢) وأيام البيض (٣). ثم استعملوا نسخ ذلك بصيام الشهر.
__________________
ـ يدخل منه أحد غيرهم ، فإذا دخلوا أغلق ، فلم يدخل منه أحد».
وعن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له».
ينظر : مغنى المحتاج (١ / ٤٢٠).
(١) فى أ : الوصية.
(٢) اتفق الفقهاء على سنية صوم عاشوراء وتاسوعاء ـ وهما : اليوم العاشر ، والتاسع من المحرم ـ لقول النبى صلىاللهعليهوسلم فى صوم عاشوراء : «أحتسب على الله أن يكفر السنة التى قبله» ، ولحديث معاوية ـ رضى الله عنه ـ قال : سمعت النبى صلىاللهعليهوسلم يقول : «هذا يوم عاشوراء ، ولم يكتب الله عليكم صيامه ، وأنا صائم ، فمن شاء فليصم ، ومن شاء فليفطر» ، وقول النبى صلىاللهعليهوسلم : «لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع».
وقد كان صوم يوم عاشوراء فرضا فى الإسلام ، ثم نسخت فرضيته بصوم رمضان ، فخير النبى صلىاللهعليهوسلم المسلمين فى صومه ، وهو اختيار كثيرين واختيار الشيخ تقى الدين من الحنابلة ، وهو الذى قاله الأصوليون. وصوم يوم عاشوراء ـ كما سبق فى الحديث الشريف ـ يكفر ذنوب سنة ماضية. والمراد بالذنوب : الصغائر ، قال الدسوقى : فإن لم يكن صغائر ، حتت من كبائر سنة ، وذلك التحتيت موكول لفضل الله ، فإن لم يكن كبائر رفع له درجات. وقال البهوتى : قال النووى فى شرح مسلم عن العلماء : المراد كفارة الصغائر ، فإن لم تكن له صغائر رجى التخفيف من الكبائر ، فإن لم تكن له كبائر رفع له درجات. وصرح الحنفية : بكراهة صوم يوم عاشوراء منفردا عن التاسع ، أو عن الحادى عشر. كما صرح الحنابلة : بأنه لا يكره إفراد عاشوراء بالصوم ، وهذا ما يفهم من مذهب المالكية. قال الحطاب : قال الشيخ زروق فى (شرح القرطبية) : واستحب بعض العلماء صوم يوم قبله ويوم بعده ، وهذا الذى ذكره عن بعض العلماء غريب لم أقف عليه. وذكر العلماء فى حكمة استحباب صوم تاسوعاء أوجها :
أحدها : أن المراد منه مخالفة اليهود فى اقتصارهم على العاشر ، وهو مروى عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ فقد روى عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «صوموا يوم عاشوراء ، وخالفوا فيه اليهود وصوموا قبله يوما أو بعده يوما». ـ